الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين

فيه خمس مسائل : الأولى : قوله تعالى أفمن أسس أي أصل ، وهو استفهام معناه التقرير . و ( من ) بمعنى الذي ، وهي في موضع رفع بالابتداء ، وخبره ( خير ) . وقرأ نافع وابن عامر وجماعة ( أسس بنيانه ) على بناء ( أسس ) للمفعول ورفع ( بنيان ) فيهما . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي وجماعة أسس بنيانه على بناء الفعل للفاعل ونصب ( بنيانه ) فيهما . وهي اختيار أبي عبيد لكثرة من قرأ به ، وأن الفاعل سمي فيه . وقرأ نصر بن عاصم بن علي " أفمن أسس " [ ص: 184 ] بالرفع ( بنيانه ) بالخفض . وعنه أيضا ( أساس بنيانه ) وعنه أيضا ( أس بنيانه ) بالخفض . والمراد أصول البناء كما تقدم . وحكى أبو حاتم قراءة سادسة وهي ( أفمن آساس بنيانه ) قال النحاس : وهذا جمع أس ; كما يقال : خف وأخفاف ، والكثير " إساس " مثل خفاف . قال الشاعر :


أصبح الملك ثابت الأساس في البهاليل من بني العباس

الثانية : قوله تعالى على تقوى من الله قراءة عيسى بن عمر - فيما حكى سيبويه - بالتنوين ، والألف ألف إلحاق كألف تترى فيما نون ، وقال الشاعر :


يستن في علقى وفي مكور

وأنكر سيبويه التنوين ، وقال : لا أدري ما وجهه . على شفا الشفا : الحرف والحد ، وقد مضى في ( آل عمران ) مستوفى . و جرف قرئ برفع الراء ، وأبو بكر وحمزة بإسكانها ; مثل الشغل والشغل ، والرسل والرسل ، يعني جرفا ليس له أصل . والجرف : ما يتجرف بالسيول من الأودية ، وهو جوانبه التي تنحفر بالماء ، وأصله من الجرف والاجتراف ; وهو اقتلاع الشيء من أصله . هار ساقط ; يقال . تهور البناء إذا سقط ، وأصله هائر ، فهو من المقلوب يقلب وتؤخر ياؤها ، فيقال : هار وهائر ، قاله الزجاج . ومثله لاث الشيء به إذا دار ; فهو لاث أي لائث . وكما قالوا : شاكي السلاح وشائك السلاح . قال العجاج :


لاث به الأشاء والعبري

الأشاء النخل ، والعبري السدر الذي على شاطئ الأنهار . ومعنى لاث به مطيف به . وزعم أبو حاتم أن الأصل فيه هاور ، ثم يقال هائر مثل صائم ، ثم يقلب فيقال هار . وزعم الكسائي أنه من ذوات الواو ومن ذوات الياء ، وأنه يقال : تهور وتهير .

قلت : ولهذا يمال ويفتح .

الثالثة : قوله تعالى فانهار به في نار جهنم فاعل ( انهار ) الجرف ; كأنه قال : فانهار الجرف بالبنيان في النار ; لأن الجرف مذكر . ويجوز أن يكون الضمير في ( به ) يعود على ( من ) وهو الباني ; والتقدير : فانهار من أسس بنيانه على غير تقوى . وهذه الآية ضرب مثل لهم ، أي من أسس بنيانه على الإسلام خير أم من أسس بنيانه على الشرك والنفاق . وبين أن بناء الكافر كبناء على جرف جهنم يتهور بأهله فيها . والشفا : الشفير . وأشفى على كذا أي دنا منه .

الرابعة : في هذه الآية دليل على أن كل شيء ابتدئ بنية تقوى الله تعالى والقصد لوجهه [ ص: 185 ] الكريم فهو الذي يبقى ويسعد به صاحبه ويصعد إلى الله ويرفع إليه ، ويخبر عنه بقوله : ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام على أحد الوجهين . ويخبر عنه أيضا بقوله : والباقيات الصالحات على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى .

الخامسة : واختلف العلماء في قوله تعالى : فانهار به في نار جهنم هل ذلك حقيقة أو مجاز على ؛ قولين ; الأول : أن ذلك حقيقة وأن النبي صلى الله عليه وسلم إذ أرسل إليه فهدم رئي الدخان يخرج منه ; من رواية سعيد بن جبير . وقال بعضهم : كان الرجل يدخل فيه سعفة من سعف النخل فيخرجها سوداء محترقة . وذكر أهل التفسير أنه كان يحفر ذلك الموضع الذي انهار فيخرج منه دخان . وروى عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش عن ابن مسعود أنه قال : جهنم في الأرض ، ثم تلا فانهار به في نار جهنم . وقال جابر بن عبد الله : أنا رأيت الدخان يخرج منه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . ( والثاني ) أن ذلك مجاز ، والمعنى : صار البناء في نار جهنم ، فكأنه انهار إليه وهوى فيه ; وهذا كقوله تعالى : فأمه هاوية . والظاهر الأول ، إذ لا إحالة في ذلك . والله أعلم .

قوله تعالى لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم

قوله تعالى لا يزال بنيانهم الذي بنوا يعني مسجد الضرار ريبة في قلوبهم أي شكا في قلوبهم ونفاقا ; قاله ابن عباس وقتادة والضحاك . وقال النابغة :


حلفت فلم أترك لنفسك ريبة     وليس وراء الله للمرء مذهب

وقال الكلبي : حسرة وندامة ; لأنهم ندموا على بنيانه . وقال السدي وحبيب والمبرد : ريبة أي حزازة وغيظا .

إلا أن تقطع قلوبهم قال ابن عباس : أي تنصدع قلوبهم فيموتوا ; كقوله : لقطعنا منه الوتين لأن الحياة تنقطع بانقطاع الوتين ; وقاله قتادة والضحاك ومجاهد . وقال سفيان : إلا أن يتوبوا . عكرمة : إلا أن تقطع قلوبهم في قبورهم ، [ ص: 186 ] وكان أصحاب عبد الله بن مسعود يقرءونها : " ريبة في قلوبهم ولو تقطعت قلوبهم " . وقرأ الحسن ويعقوب وأبو حاتم " إلى أن تقطع " على الغاية ، أي لا يزالون في شك منه إلى أن يموتوا فيستيقنوا ويتبينوا . واختلف القراء في قوله ( تقطع ) فالجمهور " تقطع " بضم التاء وفتح القاف وشد الطاء على الفعل المجهول . وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص ويعقوب كذلك إلا أنهم فتحوا التاء . وروي عن يعقوب وأبي عبد الرحمن " تقطع " على الفعل المجهول مخفف القاف . وروي عن شبل وابن كثير " تقطع " خفيفة القاف " قلوبهم " نصبا ، أي أنت تفعل ذلك بهم . وقد ذكرنا قراءة أصحاب عبد الله .

والله عليم حكيم تقدم .

التالي السابق


الخدمات العلمية