الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                          فصل : والمودع أمين ، والقول قوله فيما يدعيه من رد وتلف وإذن دفعها إلى إنسان ، وإن قال : لم تودعني ، ثم أقر بها ، أو ثبت ببينة فادعى الرد أو التلف لم يقبل ، وإن أقام به بينة ، ويحتمل أن تقبل بينته ، وإن قال : ما لك عندي شيء ، قبل قوله في الرد والتلف ، وإن مات المودع فادعى وارثه الرد لم يقبل إلا ببينة ، وإن تلفت عنده قبل إمكان ردها لم يضمنها ، وبعده يضمنها في أحد الوجهين ، وإن ادعى الوديعة اثنان فأقر بها لأحدهما فهي له مع يمينه ، ويحلف المودع أيضا ، وإن أقر بها لهما فهي لهما ويحلف لكل واحد منهما ، فإن قال : لا أعرف صاحبها حلف أنه لا يعلم ويقرع بينهما ، فمن قرع صاحبه حلف وأخذها ، وإن أودعه اثنان مكيلا أو موزونا ، فطلب أحدهما نصيبه ؛ سلمه إليه ، وإن غصبت الوديعة ، فهل للمودع المطالبة بها ؛ على وجهين .

                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                          فصل

                                                                                                                          ( والمودع أمين ) لأن الله تعالى سماها أمانة بقوله إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ( والقول قوله فيما يدعيه من رد ) مع يمينه ، وهو [ ص: 243 ] قول الثوري ; لأنه لا منفعة له في قبضها ، فقبل قوله بغير بينة ، وعنه : يقبل قوله إن كان دفعها إليه بغير بينة ، وإلا وجب عليه إقامتها ، وعلى القبول ولو على يد عبده ، أو زوجته ، أو خازنه ( وتلف ) قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه أن المستودع إذا أحرز الوديعة ، ثم ذكر أنها ضاعت ، قبل قوله مع يمينه ، قاله الأكثر ، وعنه : يصدق في تلفها بغير يمين ، والمذهب إن ادعاه بأمر خفي صدق مع يمينه ، وإن كان بأمر ظاهر كحريق فلا يقبل إلا ببينة تشهد بوجود السبب ولو باستفاضة .

                                                                                                                          كل مال تلف في يد أمين من غير تعد لا ضمان فيه ، إلا في مسألة واحدة ، وهي ما إذا استسلف السلطان للمساكين زكاة قبل حولها فتلفت في يده ضمنها للمساكين ، نص عليه ، قاله ابن القاص الشافعي .

                                                                                                                          ( وإذن في دفعها إلى إنسان ) بأن قال : دفعتها إلى فلان بأمرك ، فأنكر مالكها الإذن في دفعها قبل قول المودع ، نص عليه في رواية ابن منصور ، أشبه ما لو ادعى ردها على مالكها ، ولو اعترف بالإذن وأنكر الدفع قبل قول المستودع في المنصوص ثم ينظر في المدفوع إليه إن أقر بالقبض ، وكان الدفع في دين برئ الكل ، فإن أنكر قبل قوله مع يمينه ، وذكر أصحابنا أن الدافع يضمن لكونه قضى الدين بغير بينة ، ولا تجب اليمين على المالك ; لأن المودع مفرط لكونه أذن له في قضاء يبرئه من الحق ، ولم يبرأ بدفعه ، فكان ضامنا سواء صدقه أو كذبه ، وذكر الأزجي أن الرد إلى رسول موكل ومودع ، فأنكر الموكل ضمن لتعلق الدفع بثالث ، ويحتمل : لا ، وإن أقر ، وقال : قصرت لترك الإشهاد ، احتمل وجهين .

                                                                                                                          [ ص: 244 ] تنبيه : إذا أخر ردها بعد طلبها بلا عذر ضمن ، ويمهل لأكل ونوم وهضم طعام بقدره ، وفي " الترغيب " إن أخر لكونه في حمام ، أو على طعام إلى قضاء غرض ضمن ، وإن لم يأثم على وجه ، واختاره الأزجي ، وإن أمره بالدفع إلى وكيله فتمكن وأبي ضمن ، والأصح ولو لم يطلبها وكيله .

                                                                                                                          ( وإن قال : لم تودعني ، ثم أقر بها أو ثبت ببينة فادعى الرد أو التلف لم يقبل ) في قول أكثرهم ; لأنه صار ضامنا بالجحود ، ومعترفا على نفسه بالكذب المنافي للأمانة ( وإن أقام به بينة ) لأنه مكذب لها ( ويحتمل أن تقبل بينته ) لأن صاحبها لو أقر بذلك سقط عنه الضمان ، ولعدم التهمة ، والكذب الصادر منه لا يمنع من إظهار الحق ، والمذهب أنه إذا أقام بينة بهما ، متقدما جحوده ، لم تسمع في المنصوص ، وبعده تسمع برد ; لأن قصاراه أن يكون عاصيا ، وليس عليه أكثر من الرد ، والأصح وبتلف ، فلو شهدت به ولم يعين وقتا لم يسقط الضمان ; لأن الأصل وجوبه فلا ينبغي بأمر متردد ( وإن قال : ما لك عندي شيء قبل قوله ) مع يمينه ( في الرد والتلف ) لأن قوله لا ينافي ما شهدت به البينة ولا يكذبها ، فإن من تلفت الوديعة من حرزه بغير تفريطه أو ردها لا شيء لمالكها عنده ، ولا يستحق عليه شيئا ، ولو قال : لك وديعة ثم ادعى ظن البقاء ثم علم تلفها ، فوجهان .

                                                                                                                          ( وإن مات المودع ) فهي دين في تركته على الأصح ، وفي " المغني " أنه المذهب اعتمادا على أصل وجوب الرد ما لم يعلم ما يزيله ، والثانية لا ضمان ; لأن الأصل عدم إتلافها والتعذر فيها ، فينتفي الضمان ، وعلى الأول لا فرق أن [ ص: 245 ] يوجد جنس الوديعة في ماله أو لا ( فادعى وارثه الرد لم يقبل إلا ببينة ) لأن صاحبها لم يأمنه عليها بخلاف المودع فإنه ائتمنه ، فقبل قوله بغير بينة ، وكذا لو ادعى الرد إلى الورثة ، فإن ادعى الرد إلى ربها ، فأنكره ورثته ، فوجهان ، وعلم منه أن الوديعة لا تثبت إلا بإقرار من الميت أو ورثته أو ببينة ، فلو وجد عليها مكتوبا : وديعة لم يكن حجة عليهم لجواز أن يكون الوعاء كانت فيه وديعة قبل هذه ، وكذا لو وجد في برنامج أبيه : لفلان عندي وديعة لم يلزمه ، ذكره في " المغني " ، و " الشرح " ، وصححه في " الفروع " ، وذكر أبو الحسين أنه يعمل بخط أبيه على كيس لفلان كخطه بدين له ، فيحلف على استحقاقه ، وفي عليه وجهان ، وإسناد الدار والكاتب ودفتره ونحوهما ، وكلاء كالأمير في هذا .

                                                                                                                          غريبة : لو أودع كيسا مختوما من عشر سنين ، ثم استرده وادعى أنه فض ختمه ، وأنه خان صدق المودع ، فلو فتح فوجد فيه دراهم من ضرب خمس سنين فكذلك ، قاله البغوي في " فتاويه " .

                                                                                                                          فائدة : إذا استعمل كاتبا خائنا ، أو عاجزا أثم بما أذهب من حقوق الناس لتفريطه ، ذكره الشيخ تقي الدين .

                                                                                                                          ( وإن تلفت عنده ) أي : عند الوارث ( قبل إمكان ردها لم يضمنها ) لأنه معذور ولا تفريط منه ( وبعده يضمنها في أحد الوجهين ) جزم به في " الوجيز " وغيره لتأخر ردها مع إمكانه لحصوله في يده من غير إيداع ، أشبه ما لو أطارت الريح ثوبا إلى سطح آخر ، وأمكنه رده فلم يفعل ، والثاني لا يضمنها ؛ لأنه غير متعد في إثبات يده عليها ، لكونها حصلت في يده بغير فعله ، وفي ثالث إن جهلها ربها [ ص: 246 ] ضمن ، قطع به في " المحرر " لأنه غير معذور ( وإن ادعى الوديعة اثنان ) أي ادعى كل منهما أنه الذي أودعها ولا بينة ( فأقر بها لأحدهما فهي له مع يمينه ) لأن اليد كانت للمودع وقد نقلها إلى المدعي فصارت اليد له ، ومن كانت اليد له قبل قوله مع يمينه ( ويحلف المودع أيضا ) لأنه منكر لحقه ، ويكون على نفي العلم ، فإن حلف برئ ، وإن نكل لزمه أن يغرم له قيمتها ; لأنه فوتها عليه ، وكذا لو أقر له بها للأول ، فإنها تسلم للأول ، ويغرم قيمتها للثاني ، نص عليه ( وإن أقر بها لهما فهي لهما ) أي : بينهما كما لو كانت بأيديهما ، وتداعيا معا ( ويحلف لكل واحد منهما ) في نصفها ، فإن نكل لزمه عوضها ، يقتسمانه أيضا ( فإن قال : لا أعرف صاحبها حلف أنه لا يعلم ) يمينا واحدة إذا أكذباه ، أو أحدهما ، وقيل : لا يحلف إلا أن يكون متهما ، قال الحارثي : هذا المذهب ( ويقرع بينهما ) وجوبا لتساويهما في الحق فيما ليس بأيديهما كالعتق والسفر بإحدى نسائه ( فمن قرع صاحبه حلف ) لأنه يحتمل أنها ليست له ( وأخذها ) لأن ذلك فائدة القرعة ، فإن قال : ليست لواحد منهما ، فعن أحمد أنه يقرع بينهما قياسا على ما إذا قال : هي لأحد هؤلاء ، أو لا أعرفه عينا ، وحكى بعض أصحابنا : أنه لا يقرع بينهما ، وتقر بيد من هي بيده إلى أن يظهر صاحبها ، ذكره في " الواضح " .

                                                                                                                          ( وإن أودعه اثنان مكيلا ، أو موزونا ) ينقسم ، وهو معنى قول بعضهم لا ينقص بتفرقته ( فطلب أحدهما نصيبه سلمه إليه ) اختاره أبو الخطاب ، وجزم به في " الوجيز " ، وقدمه في " الفروع " ; لأن قسمته ممكنة بغير غبن ، ولا [ ص: 247 ] ضرر ، وقيده في " المحرر " بما إذا كان الشريك غائبا ، وقال القاضي : لا يجوز إلا بإذنه ، أو إذن حاكم ، وظاهره أنه لا يجوز إلا في المثلي صرح به في " النهاية " وغيرها ; لأن قسمة غير ذلك بيع ، وليس للمودع أن يبيع على المودع ; لأن قسمة ذلك لا يؤمن فيها الحيف ; لأنه يفتقر إلى التقويم ، وذلك ظن وتخمين .

                                                                                                                          ( وإن غصبت الوديعة ، فهل للمودع المطالبة بها ؛ على وجهين ) أحدهما ، وجزم به في " الوجيز " ، وقدمه في " الفروع " له المطالبة بها ; لأنه مأمور بحفظها وذلك منه ، وعبر في " الفروع " بأنه يلزمه ، والثاني لا ; لأنه لم يؤمر به لكونه ليس وكيلا للمالك ، ومثله مرتهن ، ومستأجر ، ومضارب ، وذكر المؤلف مع حضور المالك لا يلزمه ، وعلى الثاني لا ضمان عليه سواء أخذت منه قهرا ، أو أكره على تسليمها ; لأن الإكراه عذر يبيح دفعها ، فلم يضمنها كما لو أخذت منه قهرا ، وإن صادره سلطان لم يضمن ، قاله أبو الخطاب ، وضمنه أبو الوفاء إن فرط ، وإن أخذها منه قهرا لم يضمن ، عند أبي الخطاب ، وقال أبو الوفاء : إن ظن أخذها منه بإقراره ، كان دالا ويضمن .



                                                                                                                          أحكام : إذا استودع فضة وأمر بصرفها بذهب ففعل وتلف الذهب لم يضمنه ، وإن قال : اصرف مالي عليك من قرض ، ففعل وتلف ضمنه ولم يبرأ من القرض ، وإن استودع جارية فولدت عنده أمسك ولدها ، وقيل : بإذن ربها وهو أمانة ، فلو سأله عن الوديعة ظالم ورى عنها ، فإن ضاق النطق عنها جحدها وتأول ، وكذا إن أحلف عليها ، وإن نوى جحدها ، أو إمساكها لنفسه ، أو التعدي فيها لم يضمن ، قاله في " الرعاية " .




                                                                                                                          الخدمات العلمية