الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              حدثنا الحسن بن سعيد بن جعفر ، ثنا زكريا الساجي ، ثنا الزعفراني ، قال : حج بشر المريسي سنة إلى مكة ، ثم قدم فقال : لقد رأيت بالحجاز رجلا ما رأيت مثله سائلا ولا مجيبا ، يعني الشافعي .

              حدثنا الحسن بن سعيد ، ثنا زكريا الساجي ، ثنا أبو ثور ، عن ابن البناء ، قال : سمعت بشرا المريسي ، يقول : رأيت بالحجاز فتى لئن بقي ليكونن - أظنه قال - واحد الدنيا ، فلما كان بعد ذلك قال لي بشر : إن الفتى الذي قلت لك قد قدم ، اذهب بنا إليه ، فسلمنا عليه ثم تساءلا ، فجعل الشافعي يصيب وبشر يخطئ ، فلما خرجنا ، قال : كيف رأيته ؟ قال : قلت : كنت تخطئ ، وكان يصيب . قال : ما رأيت أفقه منه .

              حدثنا الحسن بن سعيد ، ثنا زكريا الساجي ، ثنا الحسن بن علي الرازي ، قال : سألت محمد بن عبد الله بن نمير ، فقلت : أكتب رأي أبي حنيفة ؟ قال : [ ص: 96 ] لا ، ولا كتابه ، قال : فقلت : رأي من أكتب ؟ قال : رأي مالك ، والأوزاعي ، والثوري ، ورأي الشافعي .

              حدثنا أبو محمد بن أبي حاتم ، ثنا أبو بكر بن إدريس - وراق الحميدي - قال : قال الحميدي : كنا نريد أن نرد على أصحاب الرأي ، فلم نحسن كيف نرد عليهم حتى جاءنا الشافعي ، ففتح لنا .

              حدثنا محمد بن علي بن حبيش ، وأبو أحمد محمد بن أحمد الجرجاني قالا : ثنا حبان بن إسحاق البلخي ، ثنا محمد بن مردويه ، قال : سمعت الحميدي ، يقول : صحبت الشافعي إلى البصرة ، فكان يستفيد مني الحديث ، وأستفيد منه المسائل .

              حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حمدان ، ثنا أبو محمد بن أبي حاتم ، ثنا أبو بشر بن حماد الدولابي ، ح . وحدثنا أبو محمد بن حيان ، ثنا عبد الرحمن بن داود ، ثنا أبو زكريا النيسابوري ، ثنا علي بن حسان ، قالا : ثنا أبو بكر بن إدريس ، قال : سمعت الحميدي ، يقول : كان أحمد بن حنبل قد أقام عندنا بمكة على سفيان بن عيينة ، فقال لي ذات يوم - أو ذات ليلة : هاهنا رجل من قريش يكون له هذه المعرفة ، وهذا البيان - أو نحو هذا من القول - يمر بمائة مسألة يخطئ خمسا أو عشرا ، اترك ما أخطأ فيه ، وخذ ما أصاب . قال : فكأن كلامه وقع في قلبي ، فجالسته ، فغلبتهم عليه ، فلم يزل يقدم مجلس الشافعي حتى كان يقرب مجلس سفيان ، قال : وخرجت مع الشافعي إلى مصر ، فكان هو ساكنا في العلو ، ونحن في الأوسط ، فربما خرجت في بعض الليل ، فأرى المصباح ، فأصيح بالغلام فيسمع صوتي ، فيقول : بحقي عليك ارق . فأرق ، فإذا قرطاس ودواة ، فأقول : مه يا أبا عبد الله ، فيقول : تفكرت في معنى حديث أو مسألة ، فخفت أن يذهب علي . فأمرت بالمصباح ، وكتبت ما أملاني .

              حدثنا محمد بن المظفر ، ثنا أبو الجرير عبد الوهاب بن سعد بن عثمان بن عبد الحكم ، ثنا جعفر ، عن أبي خلف ، ثنا سعد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : سمعت أبي يقول : ما رأت عيناي مثل الشافعي .

              حدثنا محمد بن المظفر ، ثنا محمد بن بشر بن عبد الله ، عن هاشم بن مرثد ، [ ص: 97 ] قال : سمعت يحيى بن معين ، يقول : الشافعي صدوق ليس به بأس .

              حدثنا أحمد بن إسحاق ، ثنا أبو الطيب أحمد بن روح الزعفراني ، قال : كنت مع يحيى بن معين في جنازة ، فقال له رجل : يا أبا زكريا ، ما تقول في الشافعي ؟ قال : دع هذا عنك ، لو كان الكذب له مطلقا لكانت مروءته تمنعه أن يكذب .

              حدثنا محمد بن حميد ، ثنا عبد الله بن محمد بن ناجية ، قال : سمعت محمد بن مسلم بن وارة ، يقول : قدمت من مصر ، فأتيت أبا عبد الله أحمد بن حنبل أسلم عليه ، قال : كتبت كتب الشافعي ؟ قلت : لا ، قال : فرطت ، ما علمنا المجمل من المفصل ، ولا ناسخ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من منسوخه حتى جالسنا الشافعي ، قال : فحملني ذلك إلى أن رجعت إلى مصر وكتبتها ، ثم قدمت .

              حدثنا الشيخ أبو أحمد بن عبد الله ، ثنا عبد الرحمن بن محمد بن حمدان ، ثنا أبو بكر بن أبي حاتم ، ثنا محمد بن مسلم بن وارة ، قال : سألت أحمد بن حنبل ، قلت : ما ترى لي من الكتب أن أنظر فيها لنفتح الآثار ؟ رأي مالك أو الثوري أو الأوزاعي ؟ فقال لي قولا أجلهم أن أذكره لك ، فقال : عليك بالشافعي ، فإنه أكبرهم صوابا ، وأتبعهم للآثار ، قلت لأحمد : فما ترى في كتب الشافعي التي عند العراقيين أحب إليك أو التي عندهم بمصر ؟ قال : عليك بالكتب التي وضعها بمصر ، فإنه وضع هذه الكتب بالعراق ، ولم يحكمها ، ثم رجع إلى مصر ، فأحكم ذاك ثم ، فلما سمعت ذاك من أحمد ، وكنت قبل ذلك قد عزمت على الرجوع إلى البلد ، وتحدث الناس بذلك - تركت ذلك ، وعزمت على الرجوع إلى مصر .

              حدثنا أحمد بن إسحاق ، ثنا أحمد بن روح ، ثنا محمد بن عبد الله الرازي ، قال : سمعت ابن راهويه ، يقول : كنت مع أحمد بمكة ، فقال : تعال حتى أريك رجلا لم تر عيناك مثله . فأراني الشافعي .

              حدثنا أبو محمد بن حيان ، ثنا إسحاق بن أحمد الفارسي ، قال : سمعت محمد بن خالد بن يزيد الشيباني ، يقول : عن حميد بن زنجويه ، قال : سمعت أحمد بن حنبل ، يقول : يروي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إن الله يمن على أهل دينه في رأس كل مائة سنة برجل من أهل بيتي يبين لهم أمر دينهم ، وإني [ ص: 98 ] نظرت في سنة مائة ، فإذا رجل من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن عبد العزيز ، ونظرت في رأس المائة الثانية ، فإذا هو رجل من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن إدريس الشافعي .

              حدثنا أبو محمد بن حيان ، ثنا إسحاق بن أحمد ، ثنا محمد بن خالد بن يزيد الشيباني ، قال : سمعت الفضيل بن زياد ينبئ عن أحمد بن حنبل ، فقال : هذا الذي ترون كله أو عامته من الشافعي ، وما بت منذ ثلاثين سنة إلا وأنا أدعو للشافعي .

              حدثنا أبو محمد ، ثنا أبو عبد الله المكي ، حدثني ابن مجاهد ، قال : سمعت محمد بن الليث ، يقول : سمعت أحمد بن حنبل ، يقول : ما صليت صلاة منذ كذا سنة إلا وأنا أدعو للشافعي .

              حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حمدان ، ثنا عبد الرحمن بن محمد بن إدريس ، أخبرني أبو عثمان الخوارزمي - نزيل مكة فيما كتب إلي - ثنا محمد بن عبد الرحمن الدينوري ، قال : سمعت أحمد بن حنبل ، يقول : كانت أنفس أصحاب الحديث في أيدي أبي حنيفة ما تبرح ، حتى رأينا الشافعي ، وكان أفقه الناس في كتاب الله وفي سنة رسوله ، ما كان يكفيه قليل الطلب في الحديث .

              قال : وسمعت ذئبا ، يقول : كنت مع أحمد بن حنبل في المسجد الجامع ، فمر حسين - يعني الكرابيسي - فقال : هذا - يعني الشافعي - رحمة من الله ؛ لأنه من آل محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم جئت إلى حسين ، فقلت : ما تقول في الشافعي ؟ فقال : ما أقول في رجل أسدى إلى أفواه الناس الكتاب والسنة والاتفاق ! ما كنا ندري ما الكتاب والسنة نحن ولا الأولون حتى سمعت من الشافعي الكتاب والسنة والإجماع .

              قال : وسمعت محمد بن الفضل البزار ، يقول : سمعت أبي ، يقول : حججت مع أحمد بن حنبل ، ونزلت معه في مكان واحد - أو في دار بمكة - وخرج أبو عبد الله باكرا ، وخرجت أنا بعده ، فلما صليت الصبح درت في المسجد ، فجئت إلى مجلس سفيان بن عيينة ، وكنت أدور مجلسا مجلسا طلبا لأبي عبد الله أحمد بن حنبل ، حتى وجدته عند شاب أعرابي ، وعليه ثياب مصبوغة ، وعلى رأسه جمة فراحمية ، حتى قعدت عند أحمد بن حنبل ، [ ص: 99 ] فقلت : أبا عبد الله ، تركت ابن عيينة وعنده الزهري وعمرو بن دينار وزياد بن علاقة ، ومن التابعين ما الله به عليم ، قال : اسكت ، فإن فاتك حديث بعلو تجده بنزول ، ولا يضرك في دينك ، ولا في عقلك ، ولا في فهمك ، وإن فاتك عقل هذا الفتى أخاف أن لا تجده إلى يوم القيامة ، ما رأيت أفقه في كتاب الله من هذا الفتى القرشي . قلت : من هذا ؟ قال : محمد بن إدريس الشافعي .

              حدثنا الحسن بن سعيد بن جعفر ، ثنا زكريا الساجي ، قال : سمعت الحسن بن محمد الزعفراني ، يقول : ما ذهبت إلى الشافعي مجلسا قط إلا وجدت فيه أحمد بن حنبل ، وقد كان الشافعي ألزم منك إلى ما انتبهك إلا بضبة الباب .

              حدثنا أبو محمد بن حيان ، ثنا عمرو بن عثمان المكي ، ح . وحدثنا الحسن بن سعيد ، ثنا زكريا الساجي ، ثنا عبد الله بن داود ، عن أبي توبة البغدادي ، قال : رأيت أحمد بن حنبل عند الشافعي في المسجد الحرام ، فقلت : يا أبا عبد الله ، هذا سفيان بن عيينة في ناحية المسجد يحدث ؟ فقال : هذا يفوت - يعني الشافعي - وذاك لا يفوت - يعني ابن عيينة - .

              حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ، قال : ذكر جعفر بن أحمد بن فارس ، قال : سمعت محمد بن جبريل ، قال : قال يحيى بن معين لما قدم الشافعي : كان أحمد بن حنبل ينهى عنه ، فاستقبلته يوما ، والشافعي راكب بغلة ، وهو يمشي خلفه ، فقلت : يا أبا عبد الله ، أنت كنت تنهانا عنه وأنت تتبعه ؟ قال : اسكت ! إن لزمت البغلة انتفعت .

              حدثنا الحسن بن سعيد ، ثنا زكريا الساجي ، ثنا جعفر ، قال : سمعت ابن جبريل البزاز ، يقول مثله .

              حدثنا أحمد بن إسحاق ، ثنا أحمد بن روح ، ثنا محمد بن ماجه القزويني ، قال : جاء يحيى بن معين يوما إلى أحمد بن حنبل ، فبينا هو عنده ، إذ مر الشافعي على بغلته ، فوثب أحمد ، فسلم عليه ، وتبعه ، فأبطأ ، ويحيى جالس ، فلما جاء قال يحيى : يا أبا عبد الله ، كم هذا ؟ فقال أحمد : دع هذا عنك ، إن أردت الفقه فالزم ذنب البغلة .

              حدثنا الحسن بن سعيد ، ثنا زكريا الساجي ، ثنا أبو العباس الساجي ، قال : [ ص: 100 ] سمعت أحمد بن حنبل ما لا أحصيه في المناظرة تجري بيني وبينه ، وهو يقول : هكذا قال أبو عبد الله الشافعي . ومن ذلك أنه كان يقول : سجدتا السهو قبل السلام في الزيادة والنقصان .

              وقال أحمد بن حنبل : ما رأيت أحدا أتبع للأثر من الشافعي .

              حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حمدان ، ثنا أبو محمد بن أبي حاتم ، ثنا أبي ، ثنا عبد الملك بن حبيب بن ميمون بن مهران ، قال : قال لي أحمد بن حنبل : ما لك لا تنظر في كتب الشافعي ؟ فما من أحد وضع الكتب أتبع للسنة من الشافعي .

              حدثنا محمد بن إبراهيم ، ثنا إبراهيم بن جعفر بن خليل المقرئ ، قال : سمعت أبا جعفر الترمذي ، يقول : أردت أن أكتب كتب الرأي ، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ، فقلت : يا رسول الله ، أكتب رأي مالك ؟ قال : ما وافق منه سنتي ، فقلت : يا رسول الله ، فأكتب رأي الشافعي ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنه ليس برأي ، إنه رد على من خالف سنتي .

              حدثنا عبد الله بن محمد بن نصر الترمذي ، قال : كتبت الحديث تسعا وعشرين سنة ، وسمعت مسائل مالك وقوله ، ولم يكن لي حسن رأي في الشافعي ، فبينا أنا قاعد في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، إذ غفوت غفوة ، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ، فقلت : يا رسول الله ، أكتب رأي أبي حنيفة ؟ قال : لا ، قلت : أكتب رأي مالك ؟ قال : اكتب ما وافق سنتي ، قلت له : أكتب رأي الشافعي ؟ فطأطأ رأسه شبه الغضبان يتولى ، وقال : ليس بالرأي ، هذا رد على من خالف سنتي . قال : فخرجت في إثر هذه الرؤيا إلى مصر ، فكتبت كتب الشافعي .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية