الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                ومن أعظم الأصول التي دل عليها القرآن في مواضع كثيرة جدا وكذلك الأحاديث وسائر كتب الله وكلام السلف وعليها تدل [ ص: 310 ] المعقولات الصريحة هو إثبات الصفات الاختيارية مثل أنه يتكلم بمشيئته وقدرته كلاما يقوم بذاته وكذلك يقوم بذاته فعله الذي يفعله بمشيئته .

                فإثبات هذا الأصل يمنع ضلال الطوائف الذين كذبوا به والقرآن والحديث مملوء وكلام السلف والأئمة مملوء من إثباته .

                فالحق المحض ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يكون الحق في خلاف ذلك . لكن الهدى التام يحصل بمعرفة ذلك وتصوره . فإن الاختلاف تارة ينشأ من سوء الفهم ونقص العلم وتارة من سوء القصد .

                والناس يختلفون في العلم والإرادة في تعدد ذلك وإيجاده .

                ومعلوم أن ما يقوم بالنفس من إرادة الأمور لا يمكن أن يقال فيه . العلم بهذا هو العلم بهذا ولا إرادة هذا هو إرادة هذا . فإن هذا مكابرة وعناد .

                وليس تمييز العلم عن العلم والإرادة عن الإرادة تمييزا مع انفصال أحدهما عن الآخر . بل نفس الصفات المتنوعة كالعلم [ ص: 311 ] والقدرة والإرادة إذا قامت بمحل واحد لم ينفصل بعضها عن بعض بل محل هذا هو محل هذا كالطعم واللون والرائحة القائمة بالأترجة الواحدة وأمثالها من الفاكهة وغيرها .

                فإذا قيل " هي علوم وإرادات " لم ينفصل هذا عن هذا بفصل حسي بل هو نوع واحد قائم بالنفس . وإذا علم هذا بعد علمه بذلك فقد زاد هذا النوع وكثر وإن شئت قلت : عظم . فلا يزيد فيه زيادة الكمية عن زيادة الكيفية .

                بل يقال " علم كثير وعلم عظيم " بأن تكون العظمة ترجع إلى قوته وشرف معلومه . ونحو ذلك . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب : { أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم ؟ قال : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } . فقال : ليهنك العلم أبا المنذر } وكتب سلمان إلى أبي الدرداء : ليس الخير أن يكثر مالك وولدك ولكن الخير أن يكثر علمك ويعظم حلمك .

                وانضمام العلم إلى العلم والإرادة إلى الإرادة والقدرة إلى القدرة هو شبيه بانضمام الأجسام المتصلة كالماء إذا زيد فيه ماء فإنه يكثر قدره . لكن هو كم متصل لا منفصل بخلاف الدراهم .

                [ ص: 312 ] فإذا قيل " تعددت العلوم والإرادات " فهو إخبار عن كثرة قدرها وأنها أكثر وأعظم مما كانت لا أن هناك معدودات منفصلة كما قد يفهم بعض الناس .

                ولهذا كان العلم اسم جنس . فلا يكاد يجمع في القرآن بل يقال { فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم } فيذكر الجنس .

                وكذلك الماء ليس في القرآن ذكر مياه بل إنما يذكر جنس الماء : { وأنزلنا من السماء ماء طهورا } ونحو ذلك .

                والعلم يشبه بالماء كقوله صلى الله عليه وسلم { إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا . . . الحديث } . وقد قال : { أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها } إلى قوله { كذلك يضرب الله الأمثال } .

                وما خلقه الرب تعالى فإنه يراه ويسمع أصوات عباده . والمعدوم لا يرى باتفاق العقلاء .

                والسالمية كأبي طالب المكي وغيره لم يقولوا : إنه يرى قائما بنفسه وإنما قالوا : يراه الرب في نفسه وإن كان هو معدوما في ذات الشيء المعدوم . فهم يجعلون الرؤية لما يقوم بنفس العالم من صورته العلمية [ ص: 313 ] ما هو عدم محض . وهم وإن كانوا غلطوا في بعض ما قالوه فلم يقولوا : إن العدم المحض الذي ليس بشيء يرى فإن هذا لا يقوله عاقل . وفي الحقيقة إذا رئي شيء فإنما رئي مثاله العلمي لا عينه .

                وأبو الشيخ الأصبهاني لما ذكرت هذه المسألة أمر بالإمساك عنها .

                فقبل أن يوجد لم يكن يرى وبعد أن يعدم لا يرى وإنما يرى حال وجوده . وهذا هو الكمال في الرؤية .

                وكذلك سمع أصوات العباد هو عند وجودها لا بعد فنائها . ولا قبل حدوثها . قال تعالى { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } وقال { ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون } .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية