الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم قالوا في الفرق بين الماضي والمستقبل ما قاله أبو المعالي. قال: (وضرب المحصلون لذلك مثالين في الوجهين. قالوا: مثال إثبات حوادث لا أول لها قبل كل حادث قول القائل لمن يخاطبه: لا أعطيك درهما إلا وأعطيك قبله دينارا، ولا أعطيك دينارا إلا وأعطيك قبله درهما، فلا يتصور أن يعطي على حكم شرطه دينارا ولا درهما. ومثال ما ألزمونا أن يقول القائل: لا أعطيك دينارا إلا وأعطيك بعده درهما، ولا أعطيك درهما إلا وأعطيك بعده دينارا، فيتصور منه أن يجري على حكم الشرط).

فيقول المعترضون: هذا التمثيل ليس مطابقا لمسألتنا، فإن قوله: لا أعطيك حتى أعطيك نفي للمضارع المستقبل إذا وجد قبله ماض، فحق القياس الصحيح والاعتبار المستقيم أن يقال: (ما أعطيتك درهما إلا أعطيتك قبله دينارا، ولا أعطيتك دينارا إلا أعطيتك قبله درهما) فهذا إخبار أن كل ماض من الدراهم كان قبله دينار، وكل دينار كان قبله درهم، وهو نظير الحوادث الماضي التي قبل كل حادث منها حادث.

كما أن قوله: (لا أعطيك درهما إلا أعطيك بعده دينارا، أو لا دينارا إلا وبعده درهم) هو نظير الحوادث المستقبلة التي بعد كل حادث منها حادث، فإن أمكن أن يصدق في قوله في المستقبل، أمكن أن يصدق في [ ص: 187 ] قوله في الماضي، وإن امتنع صدقه في الماضي امتنع صدقه في المستقبل؛ إذ العقل لا يفرق بين هذا وهذا، ولكنه يفرق بين قوله: (لا أعطيك حتى أعطيك) وبين قوله: (ما أعطيتك إلا وقد أعطيتك).

فإذا كان منتهى النظار هو القياس العقلي والاعتبار، وهم في القياس الذي جعلوه أصل أصول الدين يقيسون الشيء بما يبين مفارقته إياه في عين الحكم الذي سووا بينهما فيه، علم أن ذلك قياس باطل.

وهذا من أعظم أصولهم، أو أعظم أصولهم، الذي بنوا عليها نفيهم لما نفوه من أفعال الرب وصفاته، وعارضوا بذلك ما أرسل به رسله من أنبائه وآياته.

وقوله: (لا أعطيك حتى أعطيك) مثل قول: (ما أعطيتك حتى أعطيتك). فهنا نفي الماضي حتى يوجد الماضي، وهناك نفي المستقبل حتى يوجد المستقبل. وكلاهما ممتنع، فإنه نفي للشيء حتى يوجد الشيء. وحقيقته الجمع بين النقيضين، حتى يجعل الشيء موجودا معدوما، كما لو قيل: لا يوجد هذا حتى يوجد هو نفسه، فيقتضي أن يكون وجوده قبل وجوده، بل في حال عدمه، فيكون قد جعل موجودا حال كونه معدوما، وهذا ممتنع بين الامتناع.

بخلاف قوله: (ما أعطيتك إلا وقد أعطيتك قبله، ولا أعطيك إلا أعطيك بعده) فإنه إثبات بعد كل عطاء عطاء، وقبل كل عطاء عطاء، فهذا يتضمن إثبات بعد كل حادث مستقبل حادثا مستقبلا، وقبل كل حادث ماض حادثا مستقبلا، فأين هذا من هذا؟ [ ص: 188 ] وليتدبر العاقل القياس العقلي في هذا الباب، فإنهم قد سلموا أنه يجوز أن يكون بعد كل حادث مستقبل حادث مستقبل، كما إذا قال: (لا أعطيك درهما إلا وأعطيك بعده دينارا).

واتفقوا على أنه لا يجوز أن نقول: (لا أعطيك درهما حتى أعطيك دينارا) وتنازعوا هل يجوز أن يكون قبل كل حادث ماض حادث ماض أم لا؟ فمنهم من منع ذلك، وقال: هذا مثل أن نقول: (لا أعطيك درهما حتى أعطيك دينارا). ومنهم من جوز ذلك وقال: ليس هذا مثل هذا الممتنع، ولكن هذا نظير ذلك الجائز، وهو قوله: (لا أعطيك درهما إلا أعطيتك بعده دينارا) فإن هذا معناه أن يكون بعد كل حادث حادث، وذاك معناه أن يكون قبل كل حادث حادث.

وهذا المعنى هو هذا المعنى، لكن هذا قدم اللفظ بما بعد، وهناك قدم التلفظ بما قبل، وأما من جهة المعنى فلا فرق بينهما.

قالوا: وأما الممتنع فنظيره أن نقول: (ما أعطيتك إلا حتى أعطيتك) فهذا نظير قوله: (لا أعطيك حتى أعطيك)، ليس نظيره: (ما أعطيتك إلا وقد أعطيتك قبله). فهنا أصل متفق على جوازه، وأصل متفق على امتناعه، بل أصلان متفق على امتناعهما، وأصل متنازع فيه، هل هو نظير هذا الجائز، أو نظير الممتنعين؟

ولهذا كان الذين اتبعوا هؤلاء من المتأخرين، كالرازي والآمدي وغيرهما، قد يتبين لهم ضعف هذا الأصل الذي بنوا عليه حدوث الأجسام، ويترجح عندهم حجة من يقول بدوام فاعلية الباري تعالى، وهم يعلمون أن دين المسلمين واليهود والنصارى: أن الله خلق السماوات [ ص: 189 ] والأرض في ستة أيام، وأن الله خالق كل شيء، لكن قد لا يجمعون بين ذلك وبين دوام فاعلية الباري، لكنهم لم يبنوا على ثبوت الأفعال القائمة به المقدورة المرادة له، فيبقون دائرين بين مذهب الفلاسفة الدهرية القائلين بقدم الأفلاك، معظمين لأرسطو وأتباعه كابن سينا، وبين مذهب أهل الكلام القائلين بتناهي الحدوث، وربما رجحوا هذا تارة وهذا تارة، حتى قد يصير الأمر عندهم كأن دين المسلمين ودين الملاحدة عدلا جهل، أو ربما مالوا أحيانا إلى دين الملاحدة، حتى قد يصنفون في الشرك والسحر، كعبادة الكواكب والأصنام.

وأصل ذلك نفيهم لما يجب إثباته من فعل الرب تعالى، كما دل عليه المنقول والمعقول، فإن هؤلاء قد يثبتون أن الذين نفوا قيام الأمور الاختيارية بذات الله تعالى، وسموا ذلك نفي حلول الحوادث به، ليس لهم على ذلك حجة صحيحة: لا عقلية ولا سمعية، بل الذين نفوا ذلك من جميع الطوائف يلزمهم القول به.

فإذا كان هذا الأصل في المعقول، ولزومه للطوائف، ودلالة الشرع عليه، بهذه القوة، وبتقدير إبطاله يلزم ترجيح مذهب الملاحدة المبطلين شرعا وعقلا، على أقوال المرسلين الثابتة شرعا وعقلا، أو تكافى المسلمين بين أهل الإيمان وأهل الإلحاد -تبين ما ترتب على إنكار ذلك من الضلال والفساد.

ومصداق ذلك أن الرازي -مثلا- إذا قرر في مثل «نهاية العقول» [ ص: 190 ] وأمثالها من كتبه الكلامية تناهي الحوادث، واستوعبت ما ذكره أهل الكلام في ذلك من الحجج، عارضه إخوانه المتكلمون فقدحوا فيها واحدة واحدة، ثم هو نفسه يقدح فيها في مواضع من كتبه، مثل «المباحث المشرقية» و«المطالب العالية» وغير ذلك، ويبين أن دوام فاعلية الرب مما يجب القول به، كما ذكره في «المباحث المشرقية» فإنه قال في بيان دوام فاعلية الباري: (اعلم أنا بينا أن واجب الوجود لذاته، كما أنه واجب الوجود لذاته، فهو واجب الوجود من جميع جهاته. وإذا كان كذلك، وجب أن تدوم أفعاله بدوامه. وبينا أيضا أن سبق العدم ليس بشرط في احتياج الفعل إلى الفاعل، وبينا في باب الزمان أن الزمان لا يمكن أن يكون له مبدأ زماني، وحللنا فيه الشكوك والشبه).

التالي السابق


الخدمات العلمية