الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      أخبرنا إسماعيل بن عبد الرحمن بن عمرو المعدل في سنة اثنتين وتسعين وبعدها ، أخبرنا الحسن بن علي بن الحسين الأسدي ، أخبرنا جدي أبو القاسم الحسين بن الحسن ، أخبرنا أبو القاسم علي بن محمد الفقيه ، أخبرنا محمد بن الفضل بن نظيف الفراء بمصر سنة تسع عشرة وأربعمائة ، حدثنا أحمد بن محمد بن الحسين الصابوني سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة ، حدثنا المزني ، حدثنا الشافعي ، عن مالك ، عن نافع ، عن عبد الله : أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الوصال ، فقيل : إنك تواصل . فقال : لست مثلكم إني أطعم وأسقى .

                                                                                      قلت : كلام الأقران إذا تبرهن لنا أنه بهوى وعصبية ، لا يلتفت إليه ، بل يطوى ولا يروى ، كما تقرر عن الكف عن كثير مما شجر بين الصحابة وقتالهم رضي الله عنهم أجمعين ، وما زال يمر بنا ذلك في الدواوين والكتب والأجزاء ، ولكن أكثر ذلك منقطع وضعيف ، وبعضه كذب ، وهذا فيما بأيدينا وبين علمائنا ، فينبغي طيه وإخفاؤه ، بل إعدامه لتصفو القلوب ، وتتوفر على حب الصحابة ، والترضي عنهم ، وكتمان ذلك متعين عن العامة وآحاد العلماء .

                                                                                      وقد يرخص في مطالعة ذلك خلوة للعالم المنصف العري من الهوى ، بشرط أن يستغفر لهم ، كما علمنا الله تعالى [ ص: 93 ] حيث يقول : والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا .

                                                                                      فالقوم لهم سوابق ، وأعمال مكفرة لما وقع منهم ، وجهاد محاء ، وعبادة ممحصة ، ولسنا ممن يغلو في أحد منهم ، ولا ندعي فيهم العصمة ، نقطع بأن بعضهم أفضل من بعض ، ونقطع بأن أبا بكر وعمر أفضل الأئمة ، ثم تتمة العشرة المشهود لهم بالجنة ، وحمزة وجعفر ومعاذ وزيد ، وأمهات المؤمنين ، وبنات نبينا -صلى الله عليه وسلم- ، وأهل بدر مع كونهم على مراتب ، ثم الأفضل بعدهم مثل أبي الدرداء وسلمان الفارسي وابن عمر وسائر أهل بيعة الرضوان الذين رضي الله عنهم بنص آية سورة الفتح ثم عموم المهاجرين والأنصار كخالد بن الوليد والعباس وعبد الله بن عمرو ، وهذه الحلبة ، ثم سائر من صحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجاهد معه ، أو حج معه ، أو سمع منه ، رضي الله عنهم أجمعين وعن جميع صواحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المهاجرات والمدنيات وأم الفضل وأم هانئ الهاشمية وسائر الصحابيات .

                                                                                      فأما ما تنقله الرافضة وأهل البدع في كتبهم من ذلك ، فلا نعرج عليه ، ولا كرامة ، فأكثره باطل وكذب وافتراء ، فدأب الروافض رواية الأباطيل ، أو رد ما في الصحاح والمسانيد ، ومتى إفاقة من به سكران ؟ ! ثم قد تكلم خلق من التابعين بعضهم في بعض ، وتحاربوا ، وجرت أمور لا يمكن شرحها ، فلا فائدة في بثها .

                                                                                      ووقع في كتب التواريخ وكتب الجرح والتعديل أمور عجيبة ، والعاقل خصم نفسه ، ومن حسن إسلام [ ص: 94 ] المرء تركه ما لا يعنيه ، ولحوم العلماء مسمومة ، وما نقل من ذلك لتبيين غلط العالم ، وكثرة وهمه ، أو نقص حفظه ، فليس من هذا النمط ، بل لتوضيح الحديث الصحيح من الحسن ، والحسن من الضعيف . وإمامنا - فبحمد الله - ثبت في الحديث ، حافظ لما وعى ، عديم الغلط ، موصوف بالإتقان ، متين الديانة ، فمن نال منه بجهل وهوى ممن علم أنه منافس له ، فقد ظلم نفسه ، ومقتته العلماء ، ولاح لكل حافظ تحامله ، وجر الناس برجله ، ومن أثنى عليه ، واعترف بإمامته وإتقانه ، وهم أهل العقد والحل قديما وحديثا ، فقد أصابوا ، وأجملوا ، وهدوا ، ووفقوا .

                                                                                      وأما أئمتنا اليوم وحكامنا ، فإذا أعدموا ما وجد من قدح بهوى ، فقد يقال : أحسنوا ووفقوا ، وطاعتهم في ذلك مفترضة لما قد رأوه من حسم مادة الباطل والشر .

                                                                                      وبكل حال فالجهال والضلال قد تكلموا في خيار الصحابة . وفي الحديث الثابت : لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله ، إنهم ليدعون له ولدا ، وإنه ليرزقهم ويعافيهم .

                                                                                      وقد كنت وقفت على بعض كلام المغاربة في الإمام -رحمه الله - فكانت فائدتي من ذلك تضعيف حال من تعرض إلى الإمام ، ولله الحمد . [ ص: 95 ]

                                                                                      ولا ريب أن الإمام لما سكن مصر ، وخالف أقرانه من المالكية ، ووهى بعض فروعهم بدلائل السنة ، وخالف شيخه في مسائل ، تألموا منه ، ونالوا منه ، وجرت بينهم وحشة ، غفر الله للكل ، وقد اعترف الإمام سحنون ، وقال : لم يكن في الشافعي بدعة . فصدق والله ، فرحم الله الشافعي ، وأين مثل الشافعي والله ! في صدقه ، وشرفه ، ونبله ، وسعة علمه ، وفرط ذكائه ، ونصره للحق ، وكثرة مناقبه -رحمه الله تعالى .

                                                                                      قال الحافظ أبو بكر الخطيب في مسألة الاحتجاج بالإمام الشافعي ، فيما قرأت على أبي الفضل بن عساكر ، عن عبد المعز بن محمد ، أخبرنا يوسف بن أيوب الزاهد ، أخبرنا الخطيب ، قال : سألني بعض إخواننا بيان علة ترك البخاري الرواية عن الشافعي في " الجامع " ؟

                                                                                      وذكر أن بعض من يذهب إلى رأي أبي حنيفة ضعف أحاديث الشافعي ، واعترض بإعراض البخاري عن روايته ، ولولا ما أخذ الله على العلماء فيما يعلمونه ليبيننه للناس ; لكان أولى الأشياء الإعراض عن اعتراض الجهال ، وتركهم يعمهون ، وذكر لي من يشار إليه خلو كتاب مسلم وغيره من حديث الشافعي ، فأجبته بما فتح الله لي .

                                                                                      ومثل الشافعي من حسد ، وإلى ستر معالمه قصد ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ، ويظهر من كل حق مستوره ، وكيف لا يغبط من حاز الكمال ، بما جمع الله له من الخلال اللواتي لا ينكرها إلا ظاهر الجهل ، أو ذاهب العقل . . ثم أخذ الخطيب يعدد علوم الإمام ومناقبه ، وتعظيم الأئمة له ، وقال :

                                                                                      أبى الله إلا رفعه وعلوه وليس لمن يعليه ذو العرش واضع

                                                                                      إلى أن قال : والبخاري هذب ما في " جامعه " ، غير أنه عدل عن كثير من الأصول إيثارا للإيجاز ، قال إبراهيم بن معقل : سمعت البخاري يقول : [ ص: 96 ] ما أدخلت في كتابي " الجامع " إلا ما صح ، وتركت من الصحاح لحال الطول . فترك البخاري الاحتجاج بالشافعي ، إنما هو لا لمعنى يوجب ضعفه ، لكن غني عنه بما هو أعلى منه ، إذ أقدم شيوخ الشافعي مالك ، والدراوردي ، وداود العطار ، وابن عيينة . والبخاري لم يدرك الشافعي ، بل لقي من هو أسن منه ، كعبيد الله بن موسى ، وأبي عاصم ممن رووا عن التابعين ، وحدثه عن شيوخ الشافعي عدة ، فلم ير أن يروي عن رجل ، عن الشافعي ، عن مالك .

                                                                                      فإن قيل : فقد روى عن المسندي ، عن معاوية بن عمرو ، عن الفزاري ، عن مالك ، فلا شك أن البخاري سمع هذا الخبر من أصحاب مالك ، وهو في " الموطأ " فهذا ينقض عليك ؟ !

                                                                                      قلنا : إنه لم يرو حديثا نازلا وهو عنده عال ، إلا لمعنى ما يجده في العالي ، فأما أن يورد النازل ، وهو عنده عال ، لا لمعنى يختص به ، ولا على وجه المتابعة لبعض ما اختلف فيه ; فهذا غير موجود في الكتاب . وحديث الفزاري فيه بيان الخبر ، وهو معدوم في غيره ، وجوده الفزاري بتصريح السماع .

                                                                                      ثم سرد الخطيب ذلك من طرق عدة ، قال : والبخاري يتبع الألفاظ بالخبر في بعض الأحاديث ويراعيها ، وإنا اعتبرنا روايات الشافعي التي ضمنها كتبه ، فلم نجد فيها حديثا واحدا على شرط البخاري أغرب به ، ولا تفرد بمعنى فيه يشبه ما بيناه ، ومثل ذلك القول في ترك مسلم إياه ، لإدراكه ما أدرك البخاري من ذلك ، وأما أبو داود فأخرج في " سننه " للشافعي غير حديث ، وأخرج له الترمذي ، وابن خزيمة ، وابن أبي حاتم . . [ ص: 97 ]

                                                                                      ثم سرد الخطيب فصلا في ثناء مشايخه وأقرانه عليه ، ثم سرد أشياء في غمز بعض الأئمة ، فأساء ما شاء -أعني غامزه- وبلغنا عن الإمام الشافعي ألفاظ قد لا تثبت ، ولكنها حكم ، فمنها : ما أفلح من طلب العلم إلا بالقلة .

                                                                                      وعنه قال : ما كذبت قط ، ولا حلفت بالله ، ولا تركت غسل الجمعة ، وما شبعت منذ ست عشرة سنة ، إلا شبعة طرحتها من ساعتي .

                                                                                      وعنه قال : من لم تعزه التقوى ، فلا عز له .

                                                                                      وعنه : ما فزعت من الفقر قط . طلب فضول الدنيا عقوبة عاقب بها الله أهل التوحيد .

                                                                                      وقيل له : ما لك تكثر من إمساك العصا ، ولست بضعيف ؟ قال : لأذكر أني مسافر .

                                                                                      وقال : من لزم الشهوات ، لزمته عبودية أبناء الدنيا .

                                                                                      وقال : الخير في خمسة : غنى النفس ، وكف الأذى ، وكسب الحلال ، والتقوى ، والثقة بالله . [ ص: 98 ]

                                                                                      وعنه : أنفع الذخائر التقوى ، وأضرها العدوان .

                                                                                      وعنه : اجتناب المعاصي ، وترك ما لا يعنيك ، ينور القلب . عليك بالخلوة ، وقلة الأكل ، إياك ومخالطة السفهاء ومن لا ينصفك ، إذا تكلمت فيما لا يعنيك ملكتك الكلمة ، ولم تملكها .

                                                                                      وعنه : لو أوصى رجل بشيء لأعقل الناس ، صرف إلى الزهاد .

                                                                                      وعنه : سياسة الناس أشد من سياسة الدواب .

                                                                                      وعنه : العاقل من عقله عقله عن كل مذموم .

                                                                                      وعنه : للمروءة أركان أربعة : حسن الخلق ، والسخاء ، والتواضع ، والنسك .

                                                                                      وعنه : لا يكمل الرجل إلا بأربع : بالديانة ، والأمانة ، والصيانة ، والرزانة .

                                                                                      وعنه : ليس بأخيك من احتجت إلى مداراته . [ ص: 99 ]

                                                                                      وعنه : علامة الصديق أن يكون لصديق صديقه صديقا .

                                                                                      وعنه : من نم لك نم عليك .

                                                                                      وعنه قال : التواضع من أخلاق الكرام ، والتكبر من شيم اللئام ، التواضع يورث المحبة ، والقناعة تورث الراحة .

                                                                                      وقال : أرفع الناس قدرا من لا يرى قدره ، وأكثرهم فضلا من لا يرى فضله .

                                                                                      وقال : ما ضحك من خطأ رجل إلا ثبت صوابه في قلبه .

                                                                                      لا نلام والله على حب هذا الإمام ، لأنه من رجال الكمال في زمانه -رحمه الله - وإن كنا نحب غيره أكثر .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية