الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 798 ] 153 - فصل

                          [ نكاح الأمة الكتابية ] .

                          فإن قيل : فإذا كان قوله : ( والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ) ، المراد به إحصان العفة لا إحصان الحرية فمن أين حرمتم نكاح الأمة الكتابية ، قيل : الجواب من وجهين :

                          أحدهما : أن تحريم الأمة الكتابية لم ينعقد عليه الإجماع ، فأبو حنيفة يجوزه ، وقد قال أحمد في رواية ابن القاسم : " الكراهة في إماء أهل الكتاب ليست بالقوية ، إنما هو شيء تأوله الحسن ومجاهد " : هذا نصه .

                          وهذا - من نصه - كالصريح بأنه ليس بمحرم ، وأقل ما في ذلك توقفه عن التحريم ، لكن قال الخلال : توقف أحمد في رواية ابن القاسم لا يرد قول من قطع .

                          وقد روى عنه هذه المسألة أكثر من عشرين نفسا : أنه لا يجوز . فالمسألة إذن مسألة نزاع ، والحجة تفصل بين المتنازعين .

                          قال المبيحون : قال الله تعالى : ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) فإذا طابت له الأمة الكتابية فقد أذن له في نكاحها ، وقال تعالى : ( وأحل لكم ما وراء ذلكم ) ، ولم يذكر في " المحرمات " الأمة [ ص: 799 ] الكتابية ، وقال تعالى : ( وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم ) ، والمراد " بالصالحين " من صلح للنكاح ، هذا أصح التفسيرين ، وذهبت طائفة إلى أنه " الإيمان " ، والأول أصح ، فإن الله سبحانه لم يأمرهم بإنكاح أهل الصلاح ، والدين خاصة من عبيدهم وإمائهم ، كما لم يخصهم بوجوب الإنفاق عليهم ، بل يجب على السيد إعفاف عبده وأمته كما يجب عليه الإنفاق عليه ، فإن ذلك من تمام مصالحه ، وحقوقه على سيده ، فقد أطلق الأمر بتزويج الإماء مسلمات كن أو كافرات ، ولم يمنع من تزويج الأمة الكافرة بمسلم .

                          قالوا : وقد قال : ( ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ) ، فدل على جواز نكاح النوعين ، وأن هذا خير من هذا .

                          قالوا : وقد أباح الله سبحانه وطأهن بملك اليمين ، فكذلك يجب أن يباح وطؤهن بعقد النكاح ، وعكسهن المجوسيات والوثنيات .

                          قالوا : فكل جنس جاز نكاح حرائرهم جاز نكاح إمائهم كالمسلمات .

                          قالوا : ولأنه يجوز نكاحها بعد عتقها ، فيجوز نكاحها قبله كالأمة المسلمة .

                          [ ص: 800 ] قالوا : ولأنها يجوز للذمي نكاحها ، فجاز للمسلم نكاحها كالحرة الكتابية ، وعكسه الوثنية .

                          قالوا : ولأنه تباح ذبيحتها ، فأبيح نكاحها كالحرة .

                          قال المحرمون : قال الله تعالى : ( ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ) ، فأباح تعالى نكاح الأمة بثلاثة شروط :

                          أحدها : عدم الطول لنكاح الحرة .

                          والثاني : إيمان الأمة المنكوحة .

                          والثالث : خشية العنت .

                          فلا تتحقق الإباحة بدون هذه الأمور الثلاثة ؛ لأن الفرج كان حراما قبل ذلك ، وإنما أبيح على هذا الوجه ، وبهذا الشرط ، فإذا انتفى ذلك بقي على أصل التحريم .

                          قال المبيحون : غاية هذا أنه مفهوم شرط ، والمفهوم عندنا ليس بحجة .

                          قال المحرمون : نحن نساعدكم على أن المفهوم ليس بحجة ، ولكن الأصل في الفروج التحريم ، ولا يباح منها إلا ما أباحه الله ورسوله ، والله سبحانه إنما أباح نكاح الأمة المؤمنة ، فيبقى ما عداها على أصل التحريم ، على أن الإيمان لو لم يكن شرطا في الحل لم يكن في ذكره فائدة ، بل كان زيادة في اللفظ ، ونقصانا من المعنى ، وتوهما لاختصاص الحل ببعض محاله ، وكلام العقلاء فضلا عن كلام رب الأرض والسماء يصان عن ذلك :

                          [ ص: 801 ] يوضحه أن صفة الإيمان صفة مقصودة ، فتعليق الحكم بها يدل على أنها هي العلة في ثبوته ، ولو ألغيت الأوصاف التي علقت بها الأحكام لفسدت الشريعة ، لقوله : ( والذين يرمون المحصنات ) ، وقوله : ( والمحصنات من النساء ) ، ونظائره أكثر من أن تحصر .

                          قال المبيحون : لا يمكنكم الاستدلال بالآية ؛ لأن الله سبحانه قال : ( ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم ) ، فلم يبح نكاح الأمة إلا عند عدم الطول لنكاح الحرة المؤمنة .

                          وقلتم : لا يباح له نكاح الأمة إذا قدر على حرة كتابية ، فألغيتم وصف الإيمان في الأصل ، فكيف تنكرون على من ألغاه في البدل ؟

                          قال المحرمون - واللفظ لأبي يعلى - : لو خلينا ، والظاهر لقلنا : إيمان المحصنات شرط ، لكن قام دليل الإجماع على تركه ، ولم يقم دليل على ترك شرطه في الفتيات .

                          قلت : لم يجمع على الأمة ، على أن إيمان المحصنات ليس شرطا ، بل أحد الوجهين للشافعية : أنه إذا قدر على نكاح حرة كتابية ، ولم يقدر على نكاح حرة مسلمة فإنه ينتقل إلى الأمة ، وهذا قول قوي ، وظاهر القرآن يقتضيه ، وقد يقال : إن آية " النساء " متقدمة على آية " المائدة " التي فيها إباحة المحصنات من أهل الكتاب ، قال تعالى : [ ص: 802 ] ( اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ) ، فحينئذ أبيح نكاح الكتابيات .

                          قال المحرمون : قال الله تعالى : ( والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب ) ، والإحصان هاهنا هو إحصان الحرية .

                          قال القاضي إسماعيل في " أحكام القرآن " : " يقع الإحصان على العفة ، ويقع على الحرية ، وإنما أريد بهذا الموضع الحرية ؛ لأنه لو أريد به العفة لما جاز لمسلم أن يتزوج نصرانية ، ولا يهودية حتى يثبت عفتها ، ولما جاز له أيضا أن يتزوج - بهذه الآية - مسلمة حتى يثبت عفتها ؛ لأن اللفظ جاء في الموضعين على شيء واحد ، فعلم أنهن الحرائر المؤمنات ، والحرائر هن أهل الكتاب لأن الله تعالى قال : ( ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ) .

                          وقد حدثنا علي بن عبد الله ، ثنا سفيان ، أخبرنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : لا يحل نكاح إماء أهل الكتاب ؛ لأن الله تعالى قال : ( من فتياتكم المؤمنات ) .

                          [ ص: 803 ] حدثنا علي ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا يونس : كان الحسن يكره أن يتزوج الأمة اليهودية والنصرانية ، وقال : إنما رخص الله في الأمة المسلمة ، قال تعالى : ( من فتياتكم المؤمنات ) ، ثم ذكر المنع من نكاح الأمة الكتابية عن إبراهيم ، ومكحول ، وقتادة ، ويحيى بن سعيد ، وعن الفقهاء السبعة .

                          [ ص: 804 ] وأرفع ما روي فيه عن جابر بن عبد الله .

                          قال القاضي : " حدثنا ابن أبي أويس ، حدثنا ابن أبي الزناد ، عن موسى بن عقبة ، عن أبي الزبير قال : سألت جابرا عن الرجل له عبد مسلم ، وأمة نصرانية ، أينكحها إياه ؟ قال : لا " .

                          قال المبيحون : لم يجمع الناس على أن الإحصان هاهنا إحصان الحرية .

                          قال سفيان بن عيينة ، عن مطرف ، عن عامر : ( والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ) ، قال : إذا أحصنت فرجها ، واغتسلت من الجنابة .

                          وصح عن مجاهد : ( والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ) [ ص: 805 ] ، قال : هن العفايف .

                          قالوا : ولو طولبتم بموضع واحد من القرآن أريد بالإحصان فيه الحرية لا يصلح لغيرها لم تجدوا إليه سبيلا ، والذي اطرد مجيء القرآن به في هذه اللفظة شيئان : العفة ، والتزويج ، وأما الإسلام والحرية فلم يتعين إرادة واحد منهما باللفظ .

                          وقولكم : إنه لو أريد به العفة لما جاز التزويج بالكتابية ، ولا بالمسلمة إلا بعد ثبوت عفتها ، فهذا هو الذي دل عليه الكتاب ، والسنة في غير موضع .

                          ومن محاسن الشريعة تحريم نكاح البغايا ، فإنه من أقبح الأمور ، والناس إذا اجتهدوا في تعيير الرجل قالوا : زوج بغي ، ومثل هذا فطرة فطر الله عليها الخلق ، فلا تأتي شريعة بإباحته .

                          والبغي خبيثة ، والله سبحانه حرم الخبائث من المناكح كما حرمها من المطاعم ، ولم يبح نكاح المرأة إلا بشرط إحصانها ، وقال في نكاح الزواني : ( وحرم ذلك على المؤمنين ) ، ولم ينسخ هذه الآية شيء ، ويكفي في نكاح الحرة عدم اشتهار زناها ، فإن الأصل عفتها ، فعفتها ثابتة بالأصل ، فلا يشق اشتراطها ، فإذا اشتهر زناها حرم نكاحها ، فإذا تابت فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له .

                          وأما ما ذكرتم عن جابر - رضي الله عنه - والتابعين من التحريم فقد عارضهم آخرون .

                          [ ص: 806 ] قال ابن أبي شيبة : حدثنا جرير بن عبد الحميد ، عن مغيرة ، عن أبي ميسرة قال : إماء أهل الكتاب بمنزلة حرائرهم .

                          قال المحرمون : وأما قياسكم التزوج بالأمة الكتابية على وطئها فقياس فاسد جدا ، فإن واطئ الأمة بملك اليمين ينعقد ولده حرا مسلما ، فلا يضر وطء الأمة الكافرة بملك اليمين ، وأما واطئ الأمة بعقد النكاح ، فإن ولده ينعقد رقيقا لمالك الأمة ، وفي ذلك التسبب إلى إثبات ملك الكافر على المسلم ، فافترقا .

                          ولهذا يجوز وطء الأمة المسلمة بملك اليمين ، ولا يجوز وطؤها بعقد النكاح إلا عند الضرورة بوجود الشرطين ، وما ثبت للضرورة يقدر بقدرها ، ولم يجز أن يتعدى ، والضرورة تزول بنكاح الأمة المسلمة ، فيقتصر عليها كما اقتصر في جواز أكل الميتة ، ولحم الخنزير على قدر الضرورة .

                          قال المبيحون : هذا ينتقض عليكم بما لو كانت الأمة الكافرة كبيرة لا يحبل مثلها ، أو كانت لمسلم ، فإن الولد لا يثبت عليه ملك كافر .

                          قال المحرمون : أليس الجواز يفضي إلى هذا فيما إذا كانت الأمة لكافر ، وهي ممن تحبل ؟ ولم يفرق أحد بل القائل قائلان : قائل بالجواز مطلقا ، وقائل [ ص: 807 ] بالمنع مطلقا ، والشارع إذا منع من الشيء لمفسدة تتوقع منه سد باب تلك المفسدة بالكلية ، ولهذا لما حرم نكاح الأمة إلا عند عدم الطول وخوف العنت خشية إرقاق الولد ، لم يبح نكاح العاقر التي لا تحبل ، ولا تلد بدون الشرطين .

                          قالوا : وأما قولكم : " إنه لا يجوز نكاحها بعد العتق ، فجاز قبله فحاصله قياس الأمة الكتابية على الحرة ، وهو قياس باطل لما علم من الفرق .

                          وأما قولكم : " إنه يجوز للكافر نكاحها ، فجاز للمسلم " فمن أبطل القياس ، فإن المجوسية يجوز للمجوسي نكاحها ، ولا يجوز للمسلم ، والخمر والخنزير مال عندهم دون المسلمين .

                          وأما قياسكم حل النكاح على حل الذبيحة فقياس فاسد ، فإن الرق لا تأثير له في الذبائح ، وله تأثير في النكاح .

                          قالوا : وأما قوله تعالى : ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) ، فالمراد به ما حل وأذن فيه ، وهو سبحانه لم يأذن إلا في ثلاثة أصناف من النساء : الحرائر من المسلمات ، والحرائر من الكتابيات ، والإماء من المسلمات ، فبقي الإماء الكتابيات لم يأذن فيهن ، فبقين على أصل التحريم .

                          ولما أذن في وطئهن بملك اليمين قلنا بإباحته .

                          وأما قوله تعالى : ( وأحل لكم ما وراء ذلكم ) ، ففي الآية ما يدل على التحريم ، وهو قوله : ( محصنين غير مسافحين ) ، أي [ ص: 808 ] غير زناة .

                          والتزوج بمن لم يبح الله التزوج بها حرام باطل ، فيكون زنا ، على أنه عام مخصوص بالإجماع ، والعام إذا خص فمن الناس من لا يحتج به ، والأكثرون على الاحتجاج به ، لكنه إذا تطرق إليه التخصيص ضعف أمره .

                          وقيل : التخصيص بالمفهوم ، والقياس وقول الصحابي ، وغير ذلك .

                          وأما قوله تعالى : ( ولأمة مؤمنة خير من مشركة ) ، فمن استدل به فقد أبعد النجعة جدا ، وهو إلى أن يكون حجة عليه أقرب .

                          قالوا : وحكمة الشريعة تقتضي تحريمها ، لاجتماع النقصين فيها ، وهما نقص الدين ، ونقص الرق ، بخلاف الحرة الكتابية والأمة المسلمة ، فإن أحد النقصين جبر بعدم الآخر .

                          وقالوا : وقد كانت قضية المساواة في الكفاءة تقتضي كون المرأة كفؤا للرجل كما يكون الرجل كفؤا لها ، ولكن لما كان الرجال قوامين على النساء ، والنساء عوان عندهم لم يشترط مكافأتهن للرجال ، وجاز للرجل أن يتزوج من لا تكافئه لحاجته إلى ذلك ، فإذا فقدت صفات الكفاءة جملة بحيث لم يوجد منها صفة واحدة في دين ولا حرية ولا عفة اقتضت محاسن الشريعة صيانته عنها بتحريمها عليه ، فهذا غاية ما يقال في هذه المسألة ، والله أعلم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية