الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب ما جاء في بيع العينة 2266 - ( عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا ضن الناس بالدينار والدرهم ، وتبايعوا بالعينة ، واتبعوا أذناب البقر ، وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاء ، فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم } . رواه أحمد وأبو داود ، ولفظه : { إذا تبايعتم بالعينة ، وأخذتم أذناب البقر ، ورضيتم بالزرع ، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم } ) . الحديث أخرجه أيضا الطبراني وابن القطان وصححه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            قال الحافظ في بلوغ المرام : ورجاله ثقات ، وقال في التلخيص : وعندي أن إسناد الحديث الذي صححه ابن القطان معلول ; لأنه لا يلزم من كون رجاله ثقات أن يكون صحيحا ; لأن الأعمش مدلس ولم [ ص: 245 ] يذكر سماعه من عطاء وعطاء يحتمل أن يكون هو عطاء الخراساني فيكون فيه تدليس التسوية بإسقاط نافع بين عطاء وابن عمر انتهى ، وإنما قال هكذا ; لأن الحديث رواه أحمد والطبراني من طريق أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن عطاء عن ابن عمر ورواه أحمد وأبو داود من طريق عطاء الخراساني عن نافع عن ابن عمر ، وقال المنذري في مختصر السنن ما لفظه : في إسناده إسحاق بن أسيد أبو عبد الرحمن الخراساني نزيل مصر لا يحتج بحديثه ، وفيه أيضا عطاء الخراساني ، وفيه مقال انتهى . قال الذهبي في الميزان : إن هذا الحديث من مناكيره ، وقد ورد النهي عن العينة من طرق عقد لها البيهقي في سننه بابا ساق فيه جميع ما ورد في ذلك وذكر علله ، وقال : روي حديث العينة من وجهين ضعيفين عن عطاء بن أبي رباح عن عبد الله بن عمر بن الخطاب قال : وروي عن ابن عمر موقوفا أنه كره ذلك قال ابن كثير : وروي من وجه ضعيف أيضا عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا ويعضده حديث عائشة يعني : المتقدم في الباب الذي قبل هذا وهذه الطرق يشد بعضها بعضا .

                                                                                                                                            قوله : ( بالعينة ) بكسر العين المهملة ثم ياء تحتية ساكنة ثم نون . قال الجوهري : العينة بالكسر السلف وقال في القاموس : وعين أخذ بالعينة بالكسر أي : السلف ، أو أعطى بها قال : والتاجر باع سلعته بثمن إلى أجل ثم اشتراها منه بأقل من ذلك الثمن ا هـ قال الرافعي : وبيع العينة هو أن يبيع شيئا من غيره بثمن مؤجل ويسلمه إلى المشتري ثم يشتريه قبل قبض الثمن بثمن نقد أقل من ذلك القدر انتهى .

                                                                                                                                            قال ابن رسلان في شرح السنن : وسميت هذه المبايعة عينة لحصول النقد لصاحب العينة ; لأن العين هو المال الحاضر ، والمشتري إنما يشتريها ليبيعها بعين حاضرة تصل إليه من فوره ليصل به إلى مقصوده ا هـ ، وقد ذهب إلى عدم جواز بيع العينة مالك وأبو حنيفة وأحمد والهادوية وجوز ذلك الشافعي وأصحابه مستدلين على الجواز بما وقع من ألفاظ البيع التي لا يراد بها حصول مضمونه ، وطرحوا الأحاديث المذكورة في الباب .

                                                                                                                                            واستدل ابن القيم على عدم جواز العينة بما روي عن الأوزاعي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع } قال : وهذا الحديث وإن كان مرسلا فإنه صالح للاعتضاد به بالاتفاق وله من المسندات ما يشهد له ، وهي الأحاديث الدالة على تحريم العينة ، فإنه من المعلوم أن العينة عند من يستعملها إنما يسميها بيعا وقد اتفقا على حقيقة الربا الصريح قبل العقد ثم غير اسمها إلى المعاملة وصورتها إلى التبايع الذي لا قصد لهما فيه ألبتة ، وإنما هو حيلة ومكر وخديعة لله تعالى ، فمن أسهل الحيل على من أراد فعله أن يعطيه مثلا ألفا إلا درهما باسم القرض ويبيعه خرقة تساوي درهما بخمسمائة درهم ، وقوله صلى الله عليه وسلم { إنما الأعمال بالنيات } أصل في إبطال الحيل فإن من أراد أن يعامله معاملة يعطيه فيها ألفا بألف [ ص: 246 ] وخمسمائة إنما نوى بالإقراض تحصيل الربح الزائد الذي أظهر أنه ثمن الثوب فهو في الحقيقة أعطاه ألفا حالة بألف وخمسمائة مؤجلة ، وجعل صورة القرض وصورة البيع محللا لهذا المحرم ومعلوم أن هذا لا يرفع التحريم ولا يرفع المفسدة التي حرم الربا لأجلها بل يزيدها قوة وتأكيدا من وجوه عديدة : منها : أنه يقدم على مطالبة الغريم المحتاج من جهة السلطان والحكام إقداما لا يفعله المربي ; لأنه واثق بصورة العقد الذي تحيل به . هذا معنى كلام ابن القيم

                                                                                                                                            قوله : ( واتبعوا أذناب البقر ) المراد الاشتغال بالحرث ، وفي الرواية الأخرى { وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع } وقد حمل هذا على الاشتغال بالزرع في زمن يتعين فيه الجهاد . قوله : ( وتركوا الجهاد ) أي : المتعين فعله ، وقد روى الترمذي بإسناد صحيح عن ابن عمر قال : " كنا بمدينة الروم ، فأخرجوا إلينا صفا عظيما من الروم ، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر ، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر ، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد ، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل بينهم ، فصاح المسلمون وقالوا : سبحان الله يلقي بيده إلى التهلكة ؟ فقام أبو أيوب فقال يا أيها الناس إنكم لتؤولون هذا التأويل ، وإنما نزلت هذه الآية لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه ، فقال بعضنا . لبعض سرا : إن أموالنا قد ضاعت وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه فلو أقمنا في أموالنا وأصلحنا ما ضاع منها ، فأنزل الله على نبيه ما يرد علينا فقال : { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } فكانت التهلكة : الأموال وإصلاحها وترك الغزو .

                                                                                                                                            قوله : ( ذلا ) بضم الذال المعجمة وكسرها أي : صغارا ومسكنة ، ومن أنواع الذل : الخراج الذي يسلمونه كل سنة لملاك الأرض . وسبب هذا الذل والله أعلم أنهم لما تركوا الجهاد في سبيل الله الذي فيه عز الإسلام وإظهاره على كل دين عاملهم الله بنقيضه ، وهو إنزال الذلة فصاروا يمشون خلف أذناب البقر بعد أن كانوا يركبون على ظهور الخيل التي هي أعز مكان . قوله : ( حتى ترجعوا إلى دينكم ) فيه زجر بليغ ; لأنه نزل الوقوع في هذه الأمور منزلة الخروج من الدين وبذلك تمسك من قال بتحريم العينة ، وقيل : إن دلالة الحديث على التحريم غير واضحة ; لأنه قرن العينة بالأخذ بأذناب البقر والاشتغال بالزرع - وذلك غير محرم - وتوعد عليه بالذل وهو لا يدل على التحريم ولكنه لا يخفى ما في دلالة الاقتران من الضعف ، ولا نسلم أن التوعد بالذل لا يدل على التحريم ; لأن طلب أسباب العزة الدينية وتجنب أسباب الذلة المنافية للدين واجبان على كل مؤمن ، وقد توعد على ذلك بإنزال البلاء ، وهو لا يكون إلا لذنب شديد ، وجعل الفاعل لذلك بمنزلة الخارج من الدين المرتد على عقبه ، وصرحت عائشة بأنه من المحبطات للجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث السالف ، وذلك إنما هو شأن الكبائر .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية