الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ويجوز نكاح الصغير والصغيرة إذا زوجهما الولي بكرا كانت الصغيرة أو ثيبا والولي هو العصبة ) ومالك رحمه الله يخالفنا في غير الأب ، والشافعي رحمه الله في غير الأب والجد ، وفي الثيب الصغيرة أيضا . وجه قول مالك أن الولاية على الحرة باعتبار الحاجة ولا حاجة هنا لانعدام الشهوة ، إلا أن ولاية الأب ثبتت نصا بخلاف القياس والجد ليس في معناه فلا يلحق به . [ ص: 275 ] قلنا : لا بل هو موافق للقياس لأن النكاح يتضمن المصالح ولا تتوفر إلا بين المتكافئين عادة ولا يتفق الكفء في كل زمان ، فأثبتنا الولاية في حالة الصغر إحرازا للكفء .

وجه قول الشافعي أن النظر لا يتم بالتفويض إلى غير الأب والجد لقصور شفقته وبعد قرابته ولهذا لا يملك التصرف في المال مع أنه أدنى رتبة ، فلأن لا يملك التصرف في النفس وإنه أعلى وأولى . ولنا أن القرابة داعية إلى النظر كما في الأب والجد ، وما فيه من القصور أظهرناه [ ص: 276 ] في سلب ولاية الإلزام ، بخلاف التصرف في المال فإنه يتكرر فلا يمكن تدارك الخلل فلا تفيد الولاية إلا ملزمة ومع القصور لا تثبت ولاية الإلزام . وجه قوله في المسألة الثانية أن الثيابة سبب لحدوث الرأي لوجود الممارسة فأدرنا الحكم عليها تيسيرا . ولنا ما ذكرنا من تحقق الحاجة ووفور الشفقة ، ولا ممارسة تحدث الرأي بدون [ ص: 277 ] الشهوة فيدار الحكم على الصغر ، ثم الذي يؤيد كلامنا فيما تقدم قوله صلى الله عليه وسلم { النكاح إلى العصبات من غير فصل } والترتيب في العصبات في ولاية النكاح كالترتيب في الإرث والأبعد محجوب بالأقرب .

التالي السابق


( قوله ويجوز نكاح الصغير والصغيرة إذا زوجهما الولي ) لقوله تعالى { واللائي لم يحضن } فأثبت العدة للصغيرة وهو فرع تصور نكاحها شرعا فبطل به منع ابن شبرمة وأبي بكر بن الأصم منه ، وتزويج أبي بكر عائشة رضي الله عنهما وهي بنت ست نص قريب من المتواتر ، وتزوج قدامة بن مظعون بنت الزبير يوم ولدت مع علم الصحابة رضي الله عنهم نص في فهم الصحابة عدم الخصوصية في نكاح عائشة .

( قوله والولي هو العصبة ، ومالك يخالفنا في غير الأب والشافعي في غير الأب والجد وفي الثيب الصغيرة ) فعنده لا يلي عليها أحد حتى تبلغ فتزوج بإذنها وقد ذكرناها .

وجه قول مالك أن الولاية على [ ص: 275 ] الحرة إنما تثبت لحاجتها ولا حاجة قبل البلوغ لعدم الشهوة ، إلا أن ولاية الأب ثبتت نصا بخلاف القياس ; لأن أثر الحرية دفع سلطنة الغير وهو تزويج أبي بكر عائشة رضي الله عنهما وهي بنت ست ، والجد ليس في معنى الأب ليلحق به دلالة لقصور شفقته بالنسبة إليه ولذا يقدم وصي الأب عليه فيقتصر على مورد النص . قلنا : بل هو موافق للقياس ; لأن النكاح يراد لمقاصده ولا تتوفر إلا بين المتكافئين عادة ، ولا يتفق الكفء في كل زمان ، فإثبات ولاية الأب بالنص بعلة إحراز الكفء إذا ظفر به للحاجة إليه ، إذ قد لا يظفر بمثله إذا فات بعد حصوله فيتعدى إلى الجد .

وجه قول الشافعي أن التفويض إلى غيرهما مخل بها لقصور شفقته لبعد قرابته ودلالة الإجماع على اعتبار ما فيه من القصور سالبا للولاية وهو الإجماع على عدم ولايته في المال إلا بوصية وهو أدنى من النفس فسلبها في النفس أولى . ولما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال { لا تنكح اليتيمة حتى تستأمر } واليتيمة الصغيرة التي لا أب لها لقوله صلى الله عليه وسلم { لا يتم بعد الحلم } وفي الحديث { أن قدامة بن مظعون زوج بنت أخيه عثمان بن مظعون من ابن عمر ، فردها صلى الله عليه وسلم وقال : إنها يتيمة ، وإنها لا تنكح حتى تستأمر } وتأثير هذا الوصف أن مزوجها قاصر الشفقة حتى لم تثبت له ولاية في المال ففي النفس أولى أن لا تثبت . ولنا قوله تعالى { وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء } الآية منع من نكاحهن عند خوف عدم العدل فيهن ، وهذا فرع جواز نكاحها عند عدم الخوف . ولا يقال ذلك بمفهوم الشرط ; لأن الأصل جواز نكاح غير المحرمات مطلقا ، فمنع من هذه عند خوف عدم العدل فيهن ، فعند عدمه يثبت الجواز بالأصل الممهد لا مضافا إلى الشرط ، ويصرح بجواز نكاحها قول عائشة : إنها نزلت في يتيمة تكون في حجر وليها يرغب في مالها ولا يقسط في صداقها فنهوا عن نكاحهن حتى يبلغوا بهن سنتهن في الصداق ، وقالت في قوله تعالى { في يتامى النساء اللاتي [ ص: 276 ] لا تؤتونهن ما كتب لهن } الآية ، نزلت في يتيمة تكون في حجر وليها ولا يرغب في نكاحها لدمامتها ولا يزوجها من غيره كي لا يشاركه في مالها ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فهذه الآية أمر بتزويجهن من غيرهم أو تزوجهن مع الإقساط .

{ وزوج صلى الله عليه وسلم بنت عمه حمزة رضي الله عنه من عمر بن أبي سلمة وهي صغيرة } ، وإنما زوجها بالعصوبة لا بولاية ثبتت بالنبوة ; لأنه صلى الله عليه وسلم لم يزوج بها قط ، ولو فعل لم يتزوج أحد إلا عنه ، لكن كانوا يتزوجون من غير علمه وحضوره على ما في حديث جابر { أنه صلى الله عليه وسلم سأله عن تزوجه فذكر أنها ثيب ، فقال : هلا بكرا } الحديث . { ورأى على عبد الرحمن بن عوف الصفرة فقال مهيم ؟ قال تزوجت ، وسأله كم ساق لها } .

والآثار في ذلك وجوازه شهيرة عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عمر وأبي هريرة . والمعنى أن الحاجة إلى الكفء ثابتة ; لأن مقاصد النكاح إنما تتم معه ، وإنما يظفر به في وقت دون وقت ، والولاية لعلة الحاجة فيجب إثباتها إحرازا لهذه المصلحة مع أن أصل القرابة داعية إلى الشفقة ، غير أن في هذه القرابة قصورا أظهرناه في إثبات الخيار لها إذا بلغت ، وإذا قام دليل الجواز وجب كون المراد باليتيمة في الحديث اليتيمة البالغة مجازا باعتبار ما كان ; ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم غيا المنع بالاستئمار { وإنما تستأمر البالغة } وحديث قدامة تأويله أنه خيرها صلى الله عليه وسلم فاختارت الفسخ ، ألا ترى إلى ما روي عن ابن عمر أنه قال : والله لقد انتزعت مني بعد أن ملكتها . وأما المال فإنه يعارض ذلك القدر من الشفقة كونه محبوب الطبع حبا يفضي إلى القطيعة عند المعارضة في قرابة العصبات بالخيانة فيه لنفسه أو لغيره بالمحاباة ويخفى لتعذر إحضاره بتداول الأيدي عليه أو لحمولته أو نسيانه أو التوى في العوض في المقايضة فلا تفيد الولاية غير الملزمة فائدة عدم اللزوم وهو التدارك فانتفت والملزمة منتفية لقصور الشفقة فتعذر إثبات الولاية . وحاصله أن القرابة مع قصور الشفقة مقتضاها ولاية غير ملزمة وقد تعذر [ ص: 277 ] مقتضاها في المال فانتفت فيه وأمكن في النفس فثبتت فيها ، وهذا لما أثبتنا فيه من الخيار عند البلوغ والرد من القاضي عند الاطلاع على عدم النظر من تنقيص مهر أو عدم كفاءة .

وجه قوله في الثيب الصغيرة أنها للحاجة ولا حاجة لحدوث الرأي في أمر النكاح لممارسته ، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم { الثيب تشاور } أفاد منع النكاح قبل المشاورة ولا مشاورة حالة الصغر فلا نكاح حالة الصغر وهو المطلوب . ولنا ما ذكرنا من تحقق الحاجة إلى إحراز الكفء ، والولاية عليها في النكاح مع عدم الشهوة ليس إلا لتحصيله ، ولا رأي حالة الصغر باعترافه حيث منع المشاورة قبل البلوغ لعدم أهلية المشاورة حتى أخر جواز نكاحها إلى البلوغ ، فكان حاصل هذا الكلام تناقضا ، فإن سلب الولاية بعلة حدوث الرأي تصريح بحدوث الرأي ، وتأخير نكاحها لعدم أهلية المشاورة يناقضه ، فلزم كون المراد بالثيب في الحديث البالغة حيث علق بالثيوبة ما لا يعتبر إلا بعد البلوغ ، فإذا لم يحدث الرأي قبل البلوغ والحاجة متحققة قبله ثبتت الولاية لتحقق الحاجة على ما ذكرنا فمدار الولاية الصغر . قال المصنف ( ثم الذي يؤيد كلامنا فيما تقدم ) يعني من جواز نكاح الصغير والصغيرة إذا زوجهما الولي العصبة مطلقا بعد ما كفينا مئونة إثباته بما تقدم .

( قوله صلى الله عليه وسلم { النكاح إلى العصبات من غير فصل } ) بين الأب والجد وغيرهما من العصبات في صورة الصغر أولا . روي عن علي موقوفا ومرفوعا وذكره سبط ابن الجوزي بلفظ الإنكاح وتقدم { تزويجه صلى الله عليه وسلم أمامة بنت عمه حمزة وهي صغيرة وقال لها الخيار إذا بلغت } . هذا ( والترتيب في ولاية النكاح كالترتيب في الإرث والأبعد محجوب بالأقرب ) فتقدم عصبة النسب . وأولاهم الابن وابنه وإن سفل ، ولا يتأتى إلا في المعتوهة وهذا قولهما خلافا لمحمد فإنه يرى أن الأب مقدم على الابن وستأتي المسألة ، وهل يثبت الخيار للأم المعتوهة إذا أفاقت وقد زوجها الابن ؟ في الخلاصة : ولو زوجها الابن فهو كالأب بل أولى ، ثم الأب ثم الجد أبوه ثم الأخ الشقيق ثم لأب . وذكر الكرخي أن الأخ والجد يشتركان في الولاية عندهما ، وعند أبي حنيفة يقدم الجد كما هو الخلاف في الميراث . والأصح أن الجد أولى بالتزويج اتفاقا ، ثم ابن الأخ الشقيق ثم ابن الأخ لأب ثم العم الشقيق ثم لأب ثم ابن العم الشقيق ثم ابن العم لأب ثم أعمام الأب ، كذلك الشقيق ثم أبناؤه ثم لأب ثم أبناؤه ثم عم الجد الشقيق ثم أبناؤه ثم عم الجد لأب ثم أبناؤه وإن سفلوا ، كل هؤلاء يثبت لهم ولاية الإجبار على البنت والذكر في حال صغرهما وحال كبرهما إذا جنا . مثلا غلام بلغ عاقلا ثم جن فزوجه أبوه وهو رجل جاز إذا كان جنونه مطبقا ، ولم يقدر أبو حنيفة في الجنون المطبق قدرا على ما سنذكره ، فإن [ ص: 278 ] أفاق فلا خيار له ، وإذا زوجه أخوه فأفاق فله الخيار . ثم المعتق وإن كان امرأة ثم بنوه وإن سفلوا ثم عصبته من النسب على ترتيب عصبات النسب ، وإذا عدم العصبات هل يثبت لذوي الأرحام ؟ يأتي




الخدمات العلمية