الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 434 ] ( وإذا الصحف نشرت ) صحف الأعمال كانت مطوية على الأعمال ، فنشرت يوم القيامة ليقرأ كل إنسان كتابه . وقيل : الصحف التي تتطاير بالأيمان والشمائل بالجزاء ، وهي صحف غير صحف الأعمال . وقرأ أبو رجاء ، و قتادة ، والحسن ، والأعرج وشيبة ، وأبو جعفر ، ونافع ، وابن عامر و عاصم : نشرت بخف الشين ، وباقي السبعة : بشدها . وكشط السماء : طيها كطي السجل . وقيل : أزيلت كما يكشط الجلد عن الذبيحة . وقرأ عبد الله : قشطت بالقاف ، وهما كثيرا ما يتعاقبان ، كقولهم : عربي قح وكح ، وتقدمت قراءته قافورا ، أي كافورا . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحفص : ( سعرت ) بشد العين ، وباقي السبعة : بخفها ، وهي قراءة علي . قال قتادة : سعرها غضب الله تعالى وذنوب بني آدم ، وجواب إذا وما عطفت عليه ( علمت نفس ما أحضرت ) ونفس تعم في الإثبات من حيث المعنى ، ما أحضرت من خير تدخل به الجنة ، أو من شر تدخل به النار . وقال ابن عطية : ووقع الإفراد لينبه الذهن على حقارة المرء الواحد وقلة دفاعه عن نفسه . انتهى .

وقرئت هذه السورة عند عبد الله ، فلما بلغ القارئ ( علمت نفس ما أحضرت ) قال عبد الله : وانقطاع ظهراه . ( بالخنس ) قال الجمهور : الدراري السبعة : الشمس ، والقمر ، وزحل ، وعطارد ، والمريخ ، والزهرة ، والمشتري ، وقال علي : الخمسة دون الشمس والقمر ، تجري الخمسة مع الشمس والقمر ، وترجع حتى تخفى مع ضوء الشمس ، قاله الزمخشري ، وقال ابن عطية : تخنس في جريها التي يتعهد فيها ترى العين ، وهي جوار في السماء ، وهي تكنس في أبراجها ، أي تستتر ، وقال علي أيضا والحسن وقتادة : هي النجوم كلها ؛ لأنها تخنس وتكنس بالنهار حين تختفي ، وقال الزمخشري : أيتخنس بالنهار وتكنس بالليل ، أي تطلع في أماكنها كالوحش في كنسها . انتهى . وقال عبد الله ، والنخعي ، وجابر بن زيد وجماعة : المراد ( بالخنس الجوار الكنس ) : بقر الوحش ؛ لأنها تفعل هذه الأفعال في كنائسها ، وقال ابن عباس ، وابن جبير ، والضحاك : هي الظباء ، والخنس من صفة الأنوق لأنها يلزمها الخنس ، وكذا بقر الوحش ( عسعس ) بلغة قريش ، وقال الحسن : أقبل ظلامه ، ويرجحه مقابلته بقوله : ( والصبح إذا تنفس ) فهما حالتان ، وقال المبرد : أقسم بإقباله وإدباره ، وتنفسه : كونه يجيء معه روح ونسيم ، فكأنه نفس له على المجاز . ( إنه ) أي إن هذا المقسم عليه ، أي إن القرآن ( لقول رسول كريم ) الجمهور : على أنه جبريل عليه السلام . وقيل : محمد صلى الله عليه وسلم ، وكريم صفة تقتضي نفي المذام كلها وإثبات صفات المدح اللائقة به . ( ذي قوة ) كقوله : ( شديد القوى ) . ( عند ذي ) الكينونة اللائقة من شرف المنزلة وعظم المكانة . وقيل : العرش متعلق بمكين مطاع . ثم إشارة إلى ( عند ذي العرش ) أي إنه مطاع في ملائكة الله المقربين يصدرون عن أمره ، وقرأ أبو جعفر ، وأبو حيوة ، وأبو البرهسم وابن مقسم : ثم ، بضم الثاء : حرف عطف ، والجمهور : ( ثم ) بفتحها ظرف مكان للبعيد ، وقال الزمخشري : وقرئ ثم تعظيما للأمانة وبيانا لأنها أفضل صفاته المعدودة . انتهى . وقال صاحب اللوامح : بمعنى مطاع وأمين ، وإنما صارت ثم بمعنى الواو بعد أن مواضعتها للمهلة والتراخي عطفا ، وذلك لأن جبريل عليه السلام كان بالصفتين معا في حال واحدة ، فلو ذهب ذاهب إلى الترتيب والمهلة في هذا العطف بمعنى مطاع في الملأ الأعلى ، ( ثم أمين ) عند انفصاله عنهم حال وحيه على الأنبياء ، عليهم الصلاة والسلام لجاز أن لو ورد به أثر . انتهى . ( أمين ) مقبول القول ليصدق فيما يقوله ، مؤتمن على ما يرسل به من وحي وامتثال أمر ( وما صاحبكم بمجنون ) نفى عنه ما كانوا ينسبونه إليه ويبهتونه به من الجنون . ( ولقد رءاه ) أي رأى الرسول صلى الله عليه وسلم ، جبريل عليه السلام ، وهذه الرؤية بعد أمر غار حراء حين رآه على كرسي بين السماء [ ص: 435 ] والأرض في صورته له ستمائة جناح ، وقيل : هي الرؤية التي رآه فيها عند سدرة المنتهى ، وسمي ذلك الموضع أفقا مجازا ، وقد كانت له عليه السلام ، رؤية ثانية بالمدينة ، وليست هذه ، ووصف الأفق بالمبين ؛ لأنه روي أنه كان في المشرق من حيث تطلع الشمس ، قاله قتادة وسفيان ، وأيضا فكل أفق في غاية البيان ، وقيل : في أفق السماء الغربي ، حكاه ابن شجرة ، وقال مجاهد : رآه نحو جياد ، وهو مشرق مكة ، وقرأ عبد الله ، وابن عباس ، وزيد بن ثابت ، وابن عمر ، وابن الزبير ، وعائشة ، و عمر بن عبد العزيز ، وابن جبير ، وعروة ، وهشام بن جندب ، و مجاهد وغيرهم ، ومن السبعة النحويان وابن كثير : ( بظنين ) بالظاء ، أي بمتهم ، وهذا نظير الوصف السابق بأمين ، وقيل : معناه بضعيف القوة على التبليغ من قولهم : بئر ظنون إذا كانت قليلة الماء ، وكذا هو بالظاء في مصحف عبد الله ، وقرأ عثمان وابن عباس أيضا والحسن ، وأبو رجاء ، والأعرج ، وأبو جعفر ، وشيبة وجماعة غيرهم وباقي السبعة : بالضاد ، أي ببخيل يشح به لا يبلغ ما قيل له ويبخل ، كما يفعل الكاهن حتى يعطى حلوانه ، قال الطبري : وبالضاد خطوط المصاحف كلها . ( وما هو بقول شيطان رجيم ) أي الذي يتراءى له إنما هو ملك لا مثل الذي يتراءى للكهان . ( فأين تذهبون ) استضلال لهم ، حيث نسبوه مرة إلى الجنون ، ومرة إلى الكهانة ، ومرة إلى غير ذلك مما هو بريء منه ، وقال الزمخشري : كما يقال لتارك الجادة اعتسافا أو ذهابا في بنيات الطريق : أين تذهب ؟ مثلت حالهم بحاله في تركهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل . انتهى . ( ذكر ) : تذكرة وعظة ، ( لمن شاء ) بدل من ( للعالمين ) ثم علق مشيئة العبيد بمشيئة الله تعالى ، قال ابن عطية : ثم خصص تعالى من شاء الاستقامة بالذكر تشريفا وتنبيها وذكرا لتلبسهم بأفعال الاستقامة ، ثم بين تعالى أن تكسب العبد على العموم في استقامة وغيرها إنما يكون مع خلق الله تعالى واختراعه الإيمان في صدر المرء . انتهى . وقال الزمخشري : وإنما أبدلوا منهم لأن الذين شاءوا الاستقامة بالدخول في الإسلام هم المنتفعون بالذكر ، فكأنه لم يوعظ به غيرهم ، وإن كانوا موعوظين جميعا . ( وما تشاءون ) الاستقامة يا من يشاؤها إلا بتوفيق الله تعالى ولطفه ، ما تشاءونها أنتم يا من لا يشاؤها إلا بقسر الله وإلجائه . انتهى . ففسر كل من ابن عطية ، و الزمخشري المشيئة على مذهبه ، وقال الحسن : ما شاءت العرب الإسلام حتى شاء الله لها .

التالي السابق


الخدمات العلمية