الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 158 ] القول الحق في استعداد محمد - صلى الله عليه وسلم - للنبوة :

                          التحقيق في صفة حال محمد - صلى الله عليه وسلم - من أول نشأته ، وإعداد الله تعالى إياه لنبوته ورسالته ، هو أنه خلقه كامل الفطرة ، ليبعثه بدين الفطرة ، وأنه خلقه كامل العقل الاستعدادي الهيولاني ، ليبعثه بدين العقل والنظر العلمي ، وأنه كمله بمعالي الأخلاق ليبعثه متمما لمكارم الأخلاق ، وأنه بغض إليه الوثنية وخرافات أهلها ورذائلهم من صغر سنه ، وحبب إليه العزلة حتى لا تأنس نفسه بشيء مما يتنافسون فيه من الشهوات واللذات البدنية ، أو منكرات الوحشية ، كسفك الدماء والبغي على الناس ، أو المطامع الدنيئة كأكل أموال الناس بالباطل - ليبعثه مصلحا لما فسد من أنفس الناس ، ومزكيا لهم بالتأسي به ، وجعله المثل البشري الأعلى ، لتنفيذ ما يوحيه إليه من الشرع الأعلى ، فكان من عفته أن سلخ من سني شبابه خمسا وعشرين سنة مع زوجه خديجة كانت في 15 منها عجوزا يائسة من النسل فتوفيت في الخامسة والستين وهي أحب الناس إليه ، وظل يذكرها ويفضلها على جميع من تزوج بهن من بعدها ، حتى عائشة بنت الصديق على جمالها وحداثتها وذكائها وكمال استعدادها للتبليغ عنه - وظل طول عمره يكره سفك الدماء ولو بالحق فكان على شجاعته الكاملة يقود أصحابه لقتال أعداء الله وأعدائه المعتدين عليه وعليهم لأجل صدهم عن دينهم ، ولكنه لم يقتل بيده إلا رجلا واحدا منهم ( هو أبي بن خلف ) كان موطنا نفسه على قتله - صلى الله عليه وسلم - فهجم عليه وهو مدجج بالحديد من مغفر ودرع فلم يجد - صلى الله عليه وسلم - بدا من قتله فطعنه في ترقوته من خلل الدرع والمغفر ، وظل طول عمره وبعد ما أفاء الله عليه من غنائم المشركين واليهود يؤثر القشف وشظف العيش على نعمته ، مع إباحة شرعه لأكل الطيبات ونهيه لمن كان يتركها تدينا ، ويرقع ثوبه ويخصف نعله ، مع إباحة دينه للزينة وأمره بها عند كل مسجد ، وكان يأكل ما وجد لا يعيب طعاما قط ، إلا أنه كان لا يشرب إلا الماء العذب النقي .

                          وأكمل الله تعالى استعداده الذاتي ( ( لا الكسبي ) ) للبعثة بإكمال دين النبيين والمرسلين والتشريع الكافي الكافل لإصلاح جميع البشر إلى يوم الدين ، وجعله حجة على جميع العالمين ، بأن أنشأه كأكثر قومه أميا وصرفه في أميته عن اكتساب أي شيء من علوم البشر من قومه العرب الأميين ومن أهل الكتاب ، حتى إنه لم يجعل له أدنى عناية بما يتفاخر به قومه من فصاحة [ ص: 159 ] اللسان ، وقوة البيان ، من شعر وخطابة ، ومفاخرة ومنافرة ، إذ كانوا يؤمون أسواق موسم الحج وأشهرها عكاظ من جميع النواحي لإظهار بلاغتهم وبراعتهم ، فكان ذلك أعظم الأسباب لارتقاء لغتهم ، ولوجود الحكمة في شعرهم ، فكان من الغريب أن يزهد في مشاركتهم فيه بنفسه ، وفي روايته لما عساه يسمعه منه ، وقد سمع بعد النبوة زهاء مائة قافية من شعر أمية فقال : ( ( إن كاد ليسلم ) ) وقال : ( ( آمن شعره وكفر قلبه ) ) وقال : ( ( إن من البيان لسحرا ، وإن من الشعر حكما ) ) رواه أحمد وأبو داود من حديث ابن عباس ، وأما قوله : ( ( إن من البيان لسحرا ) ) فقد رواه مالك وأحمد والبخاري وأبو داود والترمذي من حديث ابن عمر .

                          قلنا : إن استعداد محمد - صلى الله عليه وسلم - للنبوة والرسالة فطري لم يكن فيه شيء من كسبه بعلم ولا عمل لساني ولا نفسي ، ولم يرو عنه أنه كان يرجوها كما روي عن أمية بن أبي الصلت ، بل روي عن خديجة - رضي الله عنها - أنها لما سمعت من غلامها ميسرة أخبار أمانته وفضائله وكراماته وما قال بحيرى الراهب فيه تعلق أملها بأن يكون هو النبي الذي يتحدثون عنه ، ولكن هذه الروايات لا يصل شيء منها إلى درجة المسند الصحيح كحديث بدء الوحي الذي أوردناه آنفا ، فإن قيل إنه يقويه حلفها بالله إن الله تعالى لا يخزيه أبدا ، قلنا : إنها عللت ذلك بما ذكرته من فضائله ، ورأت أنها في حاجة إلى استفتاء ابن عمها أمية في شأنه .

                          وأما اختلاؤه - صلى الله عليه وسلم - وتعبده في الغار عام الوحي فلا شك في أنه كان عملا كسبيا مقويا لذلك الاستعداد السلبي من العزلة وعدم مشاركة المشركين في شيء من عباداتهم ولا عاداتهم ، ولكنه لم يكن يقصد الاستعداد للنبوة ; لأنه لو كان لأجلها لاعتقد حين رأى الملك أو عقب رؤيته حصول مأموله وتحقق رجائه ولم يخف منه على نفسه ، وإنما كان الباعث لهذا الاختلاء ، والتحنث اشتداد الوحشة من سوء حال الناس والهرب منها إلى الأنس بالله تعالى ، والرجاء في هدايته إلى المخرج منها ، كما بسطه شيخنا الأستاذ الإمام في تفسير قوله تعالى من سورة الضحى : ( ووجدك ضالا فهدى ) ( 93 : 7 ) وما يفسره من قوله عز وجل في سورة الشورى ( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور ) ( 42 : 52 و 53 ) وألم به في رسالة التوحيد إلماما مختصرا مفيدا ، فقال رحمه الله تعالى : ( ( من السنن المعروفة أن يتيما فقيرا أميا مثله تنطبع نفسه بما تراه من أول نشأته إلى زمن كهولته ، ويتأثر عقله بما يسمعه ممن يخالطه لا سيما إن كان من ذوي قرابته وأهل عصبته ، [ ص: 160 ] ولا كتاب يرشده ، ولا أستاذ ينبهه ، ولا عضد إذا عزم يؤيده ، فلو جرى الأمر فيه على جاري السنن لنشأ على عقائدهم ، وأخذ بمذاهبهم ، إلى أن يبلغ مبلغ الرجال ، ويكون للفكر والنظر مجال ، فيرجع إلى مخالفتهم ، إذا قام له الدليل على خلاف ضلالاتهم ، كما فعل القليل ممن كانوا على عهده ولكن الأمر لم يجر على سنته ، بل بغضت إليه الوثنية من مبدأ عمره ، فعاجلته طهارة العقيدة ، كما بادره حسن الخليقة ، وما جاء في الكتاب من قوله : ( ووجدك ضالا فهدى ) ( 93 : 7 ) لا يفهم منه أنه كان على وثنية قبل الاهتداء إلى التوحيد ، أو على غير السبيل القويم ، قبل الخلق العظيم ، حاش لله إن ذلك لهو الإفك المبين ، وإنما هي الحيرة تلم بقلوب أهل الإخلاص ، فيما يرجون للناس من الخلاص ، وطلب السبيل إلى ما هدوا إليه من إنقاذ الهالكين ، وإرشاد للضالين ، وقد هدى الله نبيه إلى ما كانت تتلمسه بصيرته باصطفائه لرسالته ، واختياره من بين خلقه لتقرير شريعته ) ) ا هـ .

                          ( أقول ) وجملة القول أن استعداد محمد - صلى الله عليه وسلم - للنبوة والرسالة عبارة عن جعل الله تعالى روحه الكريمة كمرآة صقيلة حيل بينها وبين كل ما في العالم من التقاليد الدينية ، والآداب الوراثية والعادات المكتسبة ، إلى أن تجلى فيها الوحي الإلهي بأكمل معانيه ، وأبلغ مبانيه ، لتجديد دين الله المطلق الذي كان يرسل به رسله إلى أقوامهم خاصة بما يناسب حالهم واستعدادهم ، وجعل بعثة خاتم النبيين به للبشر عامة دائمة لا يحتاجون بعدها إلى وحي آخر ، فكان في فطرته السليمة وروحه الشريفة ، وما نزل عليها من المعارف العالية ، وما أشرق فيها من نور الله عز وجل الذي تلوته عليك من آخر سورة الشورى ، هو مضرب المثل في قوله تعالى في سورة النور : ( الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم ) ( 24 : 35 ) .

                          فزيت مصباح المعارف المحمدية ، يوقد من زيتونة لا شرقية ولا غربية ، ولا يهودية ، ولا نصرانية ، بل هي إلهية علوية .

                          هذا ما نراه كافيا لتفنيد مزاعم مصوري الوحي النفسي من ناحية شخص محمد واستعداده ، ويتلوه ما هو أقوى دليلا ، وأقوم قيلا ، وهو تفنيده بموضوع الوحي الذي هو آية نبوته الخالدة ، وحجته الناهضة ، وهو القرآن العظيم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية