الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
الثالث : حذف الياء اكتفاء بالكسرة قبلها ، نحو : فارهبون ( البقرة : 40 ) ، فاعبدون ( الأنبياء : 25 ) .

قال أبو العباس : الياء الناقصة في الخط ضربان : ضرب محذوف في الخط ثابت في التلاوة ، وضرب محذوف فيهما .

فالأول هو باعتبار ملكوتي باطن ، وينقسم قسمين :

ما هو ضمير المتكلم وما هو لام الكلمة .

فالأول إذا كانت الياء ضمير المتكلم مثل فكيف كان عذابي ونذر ( القمر : 16 ) ثبتت الياء الأولى لأنه فعل ملكوتي وكذلك " " فما آتان الله خير مما آتاكم " " ( النمل : 36 ) حذفت الياء لاعتبار ما آتاه الله من العلم والنبوة ، فهو المؤتى الملكوتي من قبل الآخرة ، وفى ضمنه الجسماني للدنيا ; لأنه فان ، والأول ثابت .

وكذلك : " " فلا تسألن ما ليس لك به علم " " ( هود : 46 ) وعلم هذا المسئول غيب [ ص: 31 ] ملكوتي بدليل قوله : ما ليس لك به علم فهو بخلاف قوله : فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا ( الكهف : 70 ) ، لأن هذا سؤال عن حوادث الملك في مقام الشاهد ، كخرق السفينة ( الكهف : 71 ) ، وقتل الغلام ( الكهف : 74 ) ، وإقامة الجدار ( الكهف : 77 ) .

وكذلك : أجيب دعوة الداع إذا دعان ( البقرة : 186 ) ، فحذف الضمير في الخط دلالة على الدعاء الذي من جهة الملكوت بإخلاص الباطن .

وكذلك : أسلمت وجهي لله ومن اتبعن ( آل عمران : 20 ) هو الاتباع العلمي في دين الله [ وطريق الآخرة بدليل قوله : أسلمت لله ، فهو بخلاف قوله : فاتبعوني يحببكم الله ( آل عمران : 31 ) فإن هذا في الأعمال الظاهرة بالجوارح المقصود بها وجه الله وطاعته .

وكذلك : لمن خاف مقامي وخاف وعيد ( إبراهيم : 14 ) ، ثبتت الياء في المقام لاعتبار المعنى من جهة الملك ، وحذفت من الوعيد لاعتباره ملكوتيا ، فخاف المقام من جهة ما ظهر للأبصار ، وخاف الوعيد من جهة إيمانه بالأخبار .

وكذلك : " " لئن أخرتن إلى يوم القيامة " " ( الإسراء : 62 ) ، هو التأخير بالمؤاخذة لا التأخير الجسمي فهو بخلاف قوله لولا أخرتني إلى أجل قريب ( المنافقون : 10 ) ; لأن هذا تأخير جسمي في الدنيا الظاهرة .

وكذلك : " " عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا " " ( الكهف : 24 ) سياق الكلام في أمور محسوسة ، والهداية فيه ملكوتية ، وقد هداه الله في قصة الغار ، وهو في العدد : ثاني اثنين ( التوبة : 40 ) ، حتى خرج بدينه عن قومه بأقرب من طريق أهل الكهف حين خرجوا بدينهم عن قومهم وعددهم على ما قص الله علينا فيه ، وهذه الهداية بخلاف ما قال [ ص: 32 ] موسى : عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ( القصص : 22 ) فإنها هداية السبيل المحسوسة إلى مدين في عالم الملك ، بدليل قوله : ولما توجه تلقاء مدين ( القصص : 22 ) .

وكذلك : " " على أن تعلمن مما علمت رشدا " " ( الكهف : 66 ) .

وكذلك : ولا تتبعان ( يونس : 89 ) هو في طريق الهداية لا في مسير موسى إلى ربه ، بدليل : أفعصيت أمري ( طه : 93 ) ولم يأمره بالمسير الحسي إنما أمره أن يخلفه في قومه ويصلح وهذا بخلاف قول هارون : فاتبعوني وأطيعوا أمري ( طه : 90 ) فإنه اتباع محسوس في ترك ما سواه بدليل قوله : وأطيعوا أمري وهو لا أمر له إلا الحسي .

وكذلك : فكيف كان نكير ( الملك : 18 ) حيث وقع ، لأن النكير معتبر من جهة الملكوت ، لا من جهة أثره المحسوس ، فإن أثره قد انقضى وأخبر عنه بالفعل الماضي ، والنكير اسم ثابت في الأزمان كلها ، فيه التنبيه على أنه كما أخذ أولئك يأخذ غيرهم .

وكذلك : إني أخاف أن يكذبون ( الشعراء : 12 ) خاف موسى عليه السلام أن يكذبوه فيما جاءهم به ، وأن يكون سببه من قبله ، من جهة إفهامه لهم بالوحي ، فإنه كان عالي البيان ; لأنه كليم الرحمن ، فبلاغته لا تصل إليها أفهامهم ، فيصير إفصاحه العالي عند فهمهم النازل عقدة عليهم في اللسان ، يحتاج إلى ترجمان ; فإن يقع بعده تكذيب فيكون من قبل أنفسهم ، وبه تتم الحجة عليهم .

وكذلك : إن كدت لتردين ( الصافات : 56 ) ، هو الإرداء الأخروي الملكوتي .

وكذلك : أن ترجمون ( الدخان : 20 ) ، ليس هو الرجم بالحجارة ، إنما هو ما يرمونه من بهتانهم .

وكذلك : فحق وعيد ( ق : 14 ) ، لمن خاف مقامي وخاف وعيد ( إبراهيم : 14 ) هو الأخروي الملكوتي .

وكذلك : " " فيقول ربي أكرمن " " ( الفجر : 15 ) ، " " ربي أهانن " " ( الفجر : 16 ) هذا [ ص: 33 ] الإنسان يعتبر منزلته عند الله في الملكوت بما يبتليه في الدنيا ، وهذا من الإنسان خطأ ; لأن الله تعالى يبتلي الصالح والطالح ، لقيام حجته على خلقه .

والقسم الثاني من الضرب الأول ; إذا كانت الياء لام الكلمة ، سواء كانت في الاسم أو الفعل نحو : أجيب دعوة الداع ( البقرة : 186 ) حذفت تنبيها على المخلص لله الذي قلبه ونهايته في دعائه في الملكوت والآخرة ، لا في الدنيا .

وكذلك : " " الداع إلى شيء نكر " " ( القمر : 6 ) هو داع ملكوتي من عالم الآخرة .

وكذلك : يوم يأت ( هود : 105 ) ، هو إتيان ملكوتي أخروي آخره متصل بما وراءه من الغيب .

وكذلك : " " المهتد " " ( الكهف : 17 ) .

وكذلك : " " والباد " " ( الحج : 25 ) ، حذف لأنه على غير حال الحاضر الشاهد ، وقد جعل الله لها سرا .

وكذلك : كالجواب ( سبأ : 13 ) ، من حيث التشبيه ، فإنه ملكوتي ; إذ هو صفة تشبيه لا ظهور لها في الإدراك الملكي .

وكذلك : يوم التلاق ( غافر : 15 ) و التناد ( غافر : 32 ) كلاهما ملكوتي أخروي .

وكذلك : " " والليل إذا يسر " " ( الفجر : 4 ) ، وهو السرى الملكوتي الذي يستدل عليه بآخره من جهة الانقضاء أو بمسير النجوم .

وكذلك : " " ومن آياته الجوار " " ( الشورى : 32 ) تعتبر من حيث هي آية يدل ملكها على ملكوتها فآخرها بالاعتبار يتصل بالملكوت بدليل قوله : إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد ( الشورى : 33 ) .

[ ص: 34 ] وكذلك حذف ياء الفعل من ( يحيي ) إذا انفردت ، وثبتت مع الضمير ، مثل : " " من يحي العظام " " ( يس : 78 ) ، قل يحييها ( يس : 79 ) ; لأن حياة الباطن أظهر في العلم من حياة الظاهر ، وأقوى في الإدراك .

الضرب الثاني الذي تسقط فيه الياء في الخط والتلاوة ، فهو اعتبار غيبة عن باب الإدراك جملة ، واتصاله بالإسلام لله في مقام الإحسان ، وهو قسمان : منه ضمير المتكلم ، ومنه لام الفعل .

فالأول إذا كانت الياء ضمير المتكلم فإنها إن كانت للعبد فهو الغائب ، وإن كانت للرب فالغيبة للمذكور معها ، فإن العبد هو الغائب عن الإدراك في ذلك كله ، فهو في هذا المقام مسلم مؤمن بالغيب ، مكتف بالأدلة ، فيقتصر في الخط لذلك على نون الوقاية والكسرة ، ومنه من جهة الخطاب به الحوالة على الاستدلال بالآيات دون تعرض لصفة الذات . ولما كان الغرض من القرآن من جهة الاستدلال واعتبار الآيات وضرب المثال دون التعرض لصفة الذات ، كما قال تعالى : ويحذركم الله نفسه ( آل عمران : 28 ) ، وقال : فلا تضربوا لله الأمثال ( النحل : 74 ) كان الحذف في خواتم الآي كثيرا ; مثل : فاتقون ( البقرة : 41 ) ، فارهبون ( البقرة : 40 ) ، وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ( الذاريات : 56 ) ، وما أريد أن يطعمون ( الذاريات : 57 ) ، وهو كثير جدا .

وكذلك ضمير العبد ، مثل : إن يردن الرحمن ( يس : 23 ) العبد غائب عن علم إرادة الرحمن ، إنما علمه بها تسليما وإيمانا برهانيا .

وكذلك قوله في العقود : فلا تخشوا الناس واخشون ( المائدة : 44 ) الناس [ ص: 35 ] كلي لا يدل على ناس بأعيانهم ولا موصوفين بصفة [ فهم كلي ] ولا يعلم الكلي من حيث هو كلي ، بل من حيث أثر البعض في الإدراك ، ولا يعلم الكلي إلا من حيث هو أثر الجزئي في الإدراك ، فالخشية هنا كلية لشيء غير معلوم الحقيقة ، فوجب أن يكون الله أحق بذلك فإنه حق ، وإن لم نحط به علما كما أمر الله سبحانه بذلك ، ولا يخشى غيره ، وهذا الحذف بخلاف ما جاء في البقرة : فلا تخشوهم واخشوني ( الآية : 150 ) ضمير الجمع يعود على الذين ظلموا ( الآية : 165 ) من الناس فهم بعض لا كل ، ظهروا في الملك بالظلم ، فالخشية هنا جزئية ، فأمر سبحانه أن يخشى من جهة ما ظهر كما يجب ذلك من جهة ما ستر .

وكذلك حذفت الياء من : " " فبشر عباد " " ( الزمر : 17 ) ، و " " قل يا عباد " " ( الزمر : 10 ) فإنه خطاب لرسوله عليه السلام على الخصوص ، فقد توجه الخطاب إليه في فهمنا ، وغاب العباد كلهم عن علم ذلك ، فهم غائبون عن شهود هذا الخطاب ; لا يعلمونه إلا بوساطة الرسول .

وهذا بخلاف قوله : ( ( يا عبادي لا خوف عليكم ) ) ( الزخرف : 68 ) فإنها ثبتت ; لأنه خطاب لهم في الآخرة غير محجوبين عنه - جعلنا الله منهم إنه منعم كريم - وثبت حرف النداء ، فإنه أفهمهم نداءه الأخروي في موطن الدنيا ، في يوم ظهورهم بعد موتهم ، وفي محل أعمالهم ، إلى حضورهم يوم ظهورهم الأخروي ، بعد موتهم وفي محل جزائهم .

وكذلك : ياعبادي الذين أسرفوا على ( الزمر : 53 ) ثبت الضمير وحرف النداء في الخط ، فإنه دعاهم من مقام إسلامهم ، وحضرة امتثالهم إلى مقام إحسانهم ، ومثله : يا عبادي الذين آمنوا في العنكبوت ( الآية : 56 ) فإنه دعاهم من حضرتهم في مقام إيمانهم ، إلى حضرتهم ومقام إحسانهم ، إلى ما لا نعلمه من الزيادة بعد الحسنى .

وكذلك سقطتا في موطن الدعاء مثل : رب اغفر لي ( نوح : 28 ) حذفت الياء لعدم الإحاطة به عند التوجه إلى الله تعالى لغيبتنا نحن عن الإدراك ، وحذف حرف النداء لأنه أقرب إلينا من أنفسنا ، وأما قوله : وقيله يارب ( الزخرف : 88 ) فأثبت حرف النداء ; [ ص: 36 ] لأنه دعا ربه من مرتبة حضوره معهم في مقام الملك ، لقوله : إن هؤلاء ( الزخرف : 88 ) وأسقط حرف ضميره لمغيبه عن ذاته في توجهه في مقام الملكوت ورتبة إحسانه في إسلامه .

وكذلك في مثل : يا قوم ( هود : 63 ) دلالة على أنه خارج عنهم في خطابه ، كما هو ظاهر في الإدراك ، وإن كان متصلا بهم في النسبة الرابطة بينهم في الوجود ، العلوية من الدلائل .

والقسم الثاني : إذا كانت الياء لام الكلمة في الفعل أو الاسم ; فإنها تسقط من حيث يكون معنى الكلمة يعتبر من مبدئه الظاهر شيئا بعد شيء إلى ملكوتية الباطن ، إلى ما لا يدرك منه إلا إيمانا وتسليما ، فيكون حذف الياء منبها على ذلك ، وإن لم يكمل اعتباره في الظاهر من ذلك الخطاب بحسب عرض الخطاب ، مثل : وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما ( النساء : 146 ) ، هو ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ( الزخرف : 71 ) ، وقد ابتدأ ذلك لهم في الدنيا متصلا بالآخرة .

وكذلك : " " وإن الله لهاد الذين آمنوا " " ( الحج : 54 ) حذفت لأنه يهديهم بما نصب لهم في الدنيا من الدلائل والعبر إلى الصراط المستقيم ، يرفع درجاتهم في هدايتهم إلى حيث لا غاية ، قال الله تعالى : ولدينا مزيد ( ق : 35 ) ، وكذلك : " " وما أنت بهاد العمي " " ( الروم : 53 ) في الروم ، هذه الهداية هي الكلية على التفصيل بالتوالي التي ترقي العبد في هدايته من الأرباب إلى ما يدركه العيان ليس ذلك للرسول عليه السلام بالنسبة إلى العيان ، ويدل على ذلك قوله قبلها : فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها ( الروم : 50 ) فهذا النظر من عالم الملك ذاهبا في النظر إلى عالم الملكوت إلى ما لا يدرك إلا إيمانا وتسليما . وهذا بخلاف الحرف الذي في النمل : وما أنت بهادي العمي ( النمل : 81 ) فثبتت الياء لأن هذه الهداية كلية كاملة ، بدليل قوله : إنك على الحق المبين ( النمل : 79 ) .

[ ص: 37 ] وكذلك : " " بالواد المقدس " " ( طه : 12 ) ، و " " الواد الأيمن " " ( القصص : 30 ) هما مبدأ التقديس واليمن الذي وصفا به ، فانتقل التقديس واليمن منهما إلى الجمال ، ذاهبا بهما إلى ما لا يحيط بعلمه إلا الله .

وكذلك : " " واد النمل " " ( النمل : 18 ) هو موضع لابتداء سماع الخطاب من أخفض الخلق - وهى النملة - إلى أعلاهم - وهو الهدهد و الطير - ومن ظاهر الناس ، وباطن الجن إلى قول العفريت إلى قول : الذي عنده علم من الكتاب إلى ما وراء ذلك من هداية الكتاب إلى مقام الإسلام لله رب العالمين .

وكذلك : " " وله الجوار المنشآت في البحر " " ( الرحمن : 24 ) سقطت الياء تنبيها على أنها لله من حق إنشائها بعد أن لم تكن ، إلى ما وراء ذلك مما لا نهاية له من صفاتها .

وكذلك : " " الجوار الكنس " " ( التكوير : 16 ) حذفت الياء تنبيها على أنها تجري من محل اتصافها بالخناس ، إلى محل اتصافها بالكناس ، وذلك يفهم أنه اتصف بالخناس عن حركة تقدمت بالوصف بالجوار الظاهر ، يفهم منه وصف بالجوار الباطن ; وهذا الظاهر مبدأ لفهمه ; كالنجوم الجارية داخل تحت معنى الكلمة

التالي السابق


الخدمات العلمية