الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            أول جمعة أقيمت بالمدينة

            [ أسعد بن زرارة وإقامة أول جمعة بالمدينة ]

            قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف ، عن أبيه أبي أمامة ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، قال : كنت قائد أبي ، كعب بن مالك ، حين ذهب بصره ، فكنت إذا خرجت به إلى الجمعة ، فسمع الأذان بها صلى على أبي أمامة ، أسعد بن زرارة . قال : فمكث حينا على ذلك : لا يسمع الأذان للجمعة إلا صلى عليه واستغفر له . قال : فقلت في نفسي : والله إن هذا بي لعجز ، ألا أسأله ما له إذا سمع الأذان للجمعة صلى على أبي أمامة أسعد بن زرارة ؟ قال : فخرجت به في يوم جمعة كما كنت أخرج ، فلما سمع الأذان للجمعة صلى عليه واستغفر له . قال : فقلت له : يا أبت ، ما لك إذا سمعت الأذان للجمعة صليت على أبي أمامة ؟ قال : فقال : أي بني ، كان أول من جمع بنا بالمدينة في هزم النبيت ، من حرة بني بياضة ، يقال له : نقيع الخضمات ، قال قلت : وكم أنتم يومئذ ؟ قال : أربعون رجلا . [ أسعد بن زرارة ومصعب بن عمير وإسلام سعد بن معاذ وأسيد بن حضير ]

            قال ابن إسحاق : وحدثني عبيد الله بن المغيرة بن معيقب ، وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم : أن أسعد بن زرارة خرج بمصعب بن عمير يريد به دار بني عبد الأشهل ، ودار بني ظفر ، وكان سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل بن خالة أسعد بن زرارة ، فدخل به حائطا من حوائط بني ظفر .

            قال ابن هشام : واسم ظفر : كعب بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس - قالا : على بئر يقال لها : بئر مرق فجلسا في الحائط ، واجتمع إليهما رجال ممن أسلم ، وسعد بن معاذ ، وأسيد بن حضير ، يومئذ سيدا قومهما من بني عبد الأشهل ، وكلاهما مشرك على دين قومه ، فلما سمعا به قال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير : لا أبا لك ، انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارينا ليسفها ضعفاءنا ، فازجرهما وانههما عن أن يأتيا دارينا ، فإنه لولا أن أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت كفيتك ذلك ، هو ابن خالتي ، ولا أجد عليه مقدما ، قال : فأخذ أسيد بن حضير حربته .

            ثم أقبل إليهما ، فلما رآه أسعد بن زرارة ، قال لمصعب بن عمير : هذا سيد قومه قد جاءك ، فاصدق الله فيه ، قال مصعب : إن يجلس أكلمه .

            قال : فوقف عليهما . متشتما ، فقال : ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا ؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة ، فقال له مصعب : أوتجلس فتسمع ، فإن رضيت أمرا قبلته ، وإن كرهته كف عنك ما تكره قال : أنصفت ، ثم ركز حربته وجلس إليهما ، فكلمه مصعب بالإسلام ، وقرأ عليه القرآن ، فقالا : فيما يذكر عنهما : والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهله .

            ثم قال : ما أحسن هذا الكلام وأجمله كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين ؟ قالا له : تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك ، ثم تشهد شهادة الحق ، ثم تصلي .

            فقام فاغتسل وطهر ثوبيه ، وتشهد شهادة الحق ، ثم قام فركع ركعتين ، ثم قال لهما : إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه ، وسأرسله إليكما الآن ، سعد بن معاذ ، ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلا ، قال : أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم ، فلما وقف على النادي قال له سعد : ما فعلت ؟ قال : كلمت الرجلين ، فوالله ما رأيت بهما بأسا ، وقد نهيتهما ، فقالا : نفعل ما أحببت ، وقد حدثت أن بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه ، وذلك أنهم قد عرفوا أنه ابن خالتك ، ليخفروك قال : فقام سعد مغضبا مبادرا ، تخوفا للذي ذكر له من بني حارثة ، فأخذ الحربة من يده .

            ثم قال : والله ما أراك أغنيت شيئا ، ثم خرج إليهما ، فلما رآهما سعد مطمئنين ، عرف سعد أن أسيدا إنما أراد منه أن يسمع منهما ، فوقف عليهما متشتما ، ثم قال لأسعد بن زرارة : يا أبا أمامة ، ( أما والله ) لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني ، أتغشانا في دارينا بما نكره - وقد قال أسعد بن زرارة لمصعب بن عمير : أي مصعب ، جاءك والله سيد من وراءه من قومه ، إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان - قال : فقال له مصعب : أوتقعد فتسمع ، فإن رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته ، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره ؟ قال سعد : أنصفت .

            ثم ركز الحربة وجلس ، فعرض عليه الإسلام ، وقرأ عليه القرآن ، قالا : فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم ، لإشراقه وتسهله ، ثم قال لهما : كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين ؟ قالا : تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك ، ثم تشهد شهادة الحق ، ثم تصلي ركعتين ، قال : فقام فاغتسل وطهر ثوبيه ، وتشهد شهادة الحق ، ثم ركع ركعتين ، ثم أخذ حربته ، فأقبل عامدا إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير .

            قال : فلما رآه قومه مقبلا ، قالوا : نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم ، فلما وقف عليهم قال : يا بني عبد الأشهل ، كيف تعلمون أمري فيكم ؟ قالوا : سيدنا ( وأوصلنا ) وأفضلنا رأيا ، وأيمننا نقيبة ، قال : فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله وبرسوله قالا : فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما ومسلمة .

            ورجع أسعد ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة ، فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام ، حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون ، إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد ، وخطمة ووائل وواقف ، وتلك أوس الله ، وهم من الأوس بن حارثة ، وذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت ، وهو صيفي ، وكان شاعرا لهم قائدا يستمعون منه ويطيعونه ، فوقف بهم عن الإسلام ، فلم يزل على ذلك حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، ومضى بدر وأحد والخندق ، وقال فيما رأى من الإسلام ، وما اختلف الناس فيه من أمره :

            :


            أرب الناس أشياء ألمت يلف الصعب منها بالذلول     أرب الناس أما إذ ضللنا
            فيسرنا لمعروف السبيل     فلولا ربنا كنا يهودا
            وما دين اليهود بذي شكول     ولولا ربنا كنا نصارى
            مع الرهبان في جبل الجليل     ولكنا خلقنا إذ خلقنا
            حنيفا ديننا عن كل جيل     نسوق الهدي ترسف مذعنات
            مكشفة المناكب في الجلول

            قال ابن هشام . أنشدني قوله : فلولا ربنا ، وقوله : لولا ربنا ، وقوله : مكشفة المناكب في الجلول ، رجل من الأنصار ، أو من خزاعة . وكان الذي ثبطه -أبا قيس- عن الإسلام أولا عبد الله بن أبي ابن سلول ، بعدما أخبره أبو قيس أنه الذي بشر به يهود ، فمنعه عن الإسلام .

            قال ابن إسحاق : ولم يسلم إلى يوم الفتح هو وأخوه وحوح . وأنكر الزبير بن بكار أن يكون أبو قيس أسلم . وكذا الواقدي ، قال : كان عزم على الإسلام أول ما دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلامه عبد الله بن أبي ، فحلف لا يسلم إلى حول ، فمات في ذي القعدة . وقد ذكر غيره ، فيما حكاه ابن الأثير في كتابه " أسد الغابة " أنه لما حضره الموت دعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فسمع يقول : لا إله إلا الله .

            وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلا من الأنصار ، فقال : " يا خال ، قل لا إله إلا الله " . فقال : أخال أم عم ؟ قال : " بل خال " . قال : فخير لي أن أقول : لا إله إلا الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " نعم " . تفرد به أحمد رحمه الله ، وذكر عكرمة وغيره ، أنه لما توفي أراد ابنه أن يتزوج امرأته كبيشة بنت معن بن عاصم ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، فأنزل الله : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف [ النساء : 22 ] الآية .

            وقال ابن إسحاق ، وسعيد بن يحيى الأموي في " مغازيه " : كان أبو قيس هذا قد ترهب في الجاهلية ، ولبس المسوح ، وفارق الأوثان ، واغتسل من الجنابة ، وتطهر من الحائض من النساء وهم بالنصرانية ، ثم أمسك عنها ، ودخل بيتا له فاتخذه مسجدا ، لا يدخل عليه فيه حائض ولا جنب ، وقال : أعبد إله إبراهيم ، حين فارق الأوثان وكرهها ، حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأسلم فحسن إسلامه ، وهو شيخ كبير ، وكان قوالا بالحق ، معظما لله في جاهليته ، يقول في ذلك أشعارا حسانا ، وهو الذي يقول :


            يقول أبو قيس وأصبح غاديا     ألا ما استطعتم من وصاتي فافعلوا
            فأوصيكم بالله والبر والتقى     وأعراضكم والبر بالله أول
            وإن قومكم سادوا فلا تحسدنهم     وإن كنتم أهل الرئاسة فاعدلوا
            وإن نزلت إحدى الدواهي بقومكم     فأنفسكم دون العشيرة فاجعلوا
            وإن ناب غرم فادح فارفقوهم     وما حملوكم في الملمات فاحملوا
            وإن أنتم أمعرتم فتعففوا     وإن كان فضل الخير فيكم فأفضلوا

            وقال أبو قيس أيضا :


            سبحوا الله شرق كل صباح     طلعت شمسه وكل هلال
            عالم السر والبيان جميعا     ليس ما قال ربنا بضلال
            وله الطير تستريد وتأوي     في وكور من آمنات الجبال
            وله الوحش بالفلاة تراها     في حقاف وفي ظلال الرمال
            وله هودت يهود ودانت     كل دين مخافة من عضال
            وله شمس النصارى وقاموا     كل عيد لربهم واحتفال
            وله الراهب الحبيس تراه     رهن بؤس وكان ناعم بال
            يا بني الأرحام لا تقطعوها     وصلوها قصيرة من طوال
            واتقوا الله في ضعاف اليتامى     وبما يستحل غير الحلال
            واعلموا أن لليتيم وليا     عالما يهتدي بغير سؤال
            ثم مال اليتيم لا تأكلوه     إن مال اليتيم يرعاه والي
            يا بني التخوم لا تجزلوها     إن جزل التخوم ذو عقال
            يا بني الأيام لا تأمنوها     واحذروا مكرها ومر الليالي
            واعلموا أن مرها لنفاد ال     خلق ما كان من جديد وبالي
            واجمعوا أمركم على البر والتق     وى وترك الخنا وأخذ الحلال

            التالي السابق


            الخدمات العلمية