الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      معلومات الكتاب

      معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول

      الحكمي - حافظ بن أحمد الحكمي

      صفحة جزء
      أما بعد : فاعلموا - رحمكم الله - أنه لا صلاح للعباد ولا فلاح ، ولا نجاح ولا حياة طيبة ، ولا سعادة في الدارين ، ولا نجاة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة إلا بمعرفة أول مفروض عليهم ، والعمل به ، وهو الأمر الذي خلقهم الله - عز وجل - له ، وأخذ عليهم الميثاق به ، وأرسل به رسله إليهم ، وأنزل به كتبه عليهم ، ولأجله خلقت الدنيا والآخرة ، والجنة [ ص: 56 ] والنار ، وبه حقت الحاقة ، ووقعت الواقعة ، وفي شأنه تنصب الموازين ، وتتطاير الصحف ، وفيه تكون الشقاوة والسعادة ، وعلى حسب ذلك تقسم الأنوار ، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور .

      وذلك الأمر هو معرفة الله - عز وجل - بإلهيته وربوبيته ، وأسمائه وصفاته ، وتوحيده بذلك ، ومعرفة ما يناقضه أو بعضه من الشرك والتعطيل ، والتشبيه والتشبه ، واجتناب ذلك ، والإيمان بملائكته ، وكتبه ورسله ، واليوم الآخر ، وبالقدر خيره وشره ، وتوحيد الطريق إلى الله - عز وجل - بمتابعة كتابه ورسوله ، والعمل وفق ما شرعه الله - عز وجل - ورسوله ، ومعرفة ما يناقضها من البدع المضلة ، ويميل بالعبد عنها فيجانبها كل المجانبة ، ويعوذ بالله منها ، فإن الله - تعالى - أنزل كتابه تبيانا لكل شيء ، وتفصيل كل شيء ، وقال : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) ، ( الأنعام : 38 ) وقال : ( ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا ) ، ( الفرقان : 33 ) ، وأرسل رسوله بذلك الكتاب مبلغا ومبينا ; ليقرأه على الناس على مكث ، ويبينه لهم أتم البيان ، ويحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون ، ويهديهم به إلى صراط مستقيم ، فقال تعالى : ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ) ، ( النحل : 89 ) ، وقال تعالى : ( ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ) ، ( يوسف : 111 ) ، وقال تعالى : ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ) ، ( النحل : 44 ) ، وقال تعالى : ( وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ) ، ( النحل : 64 ) ، وقال تعالى : ( ياأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم ) ، ( المائدة : 15 - 16 ) ، ولا شفاء للقلوب والأرواح ، ولا حياة لها إلا بطاعة الله - تعالى - ورسوله صلى الله عليه وسلم ، والاستجابة لله - تعالى - ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، قال الله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ياأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) ، ( الأنفال : 20 - 24 ) الآيات ، [ ص: 57 ] وقال تعالى : ( إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون ) ، ( الأنعام : 36 ) ولم ينج الله - تعالى - من عذابه ، ولم يكتب رحمته إلا لمن اتبع كتابه ورسوله ، كما قال تعالى : ( عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ) ، ( الأعراف : 156 - 157 ) ، وقد كان الرسول يبعث في قومه خاصة ، وبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس كافة ، كما قال تعالى : ( قل ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون ) ، ( الأعراف : 158 ) وقال تعالى : ( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) ، ( سبأ : 28 ) ، ولم يتوفه الله - تعالى - حتى أكمل له الدين ، وبلغ البلاغ المبين ، وبين للناس ما نزل إليهم أوضح التبيين ، وترك أمته على المحجة البيضاء ، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا هالك ، وما من طائر يطير بجناحيه إلا وقد ذكر لهم منه علما ، وهدى الله به الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، كما قال تعالى : ( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) ، ( البقرة : 213 ) ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان بين نوح وآدم عشرة قرون ، كلهم على شريعة من الحق ، فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ، وكذلك هي في قراءة عبد الله ، وأبي بن [ ص: 58 ] كعب ، وهذا التفسير مروي عن قتادة ، ومجاهد أيضا .

      وقوله : ( وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم ) ، أي من بعد ما قامت الحجج عليهم ، وما حملهم على ذلك إلا البغي من بعضهم على بعض ، وقوله تعالى : ( فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ) ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، فنحن أول الناس دخولا الجنة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ، وأوتيناه من بعدهم ، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه . فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه وهدانا الله له ، فالناس لنا فيه تبع ، فغدا لليهود وبعد غد للنصارى . رواه عبد الرزاق ، وهو في الصحيح من طرق بألفاظ ، وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه في قوله تعالى : ( فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ) فاختلفوا في يوم الجمعة ، فاتخذ اليهود يوم السبت ، والنصارى يوم الأحد ، فهدى الله أمة محمد ليوم الجمعة ، واختلفوا في القبلة ، فاستقبلت النصارى الشرق ، واليهود بيت المقدس ، وهدى الله - تعالى - أمة محمد للقبلة ، واختلفوا في الصلاة ، فمنهم من يركع ولا يسجد ، ومنهم من يسجد ولا يركع ، ومنهم من يصلي وهو يتكلم ، ومنهم من يصلي وهو يمشي ، فهدى الله - تعالى - أمة محمد للحق من ذلك . واختلفوا في إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، فقالت اليهود : كان يهوديا ، وقالت النصارى : نصرانيا ، وجعله الله حنيفا مسلما ، فهدى الله أمة محمد إلى الحق من ذلك . واختلفوا في عيسى عليه الصلاة والسلام ، فكذبت به اليهود ، وقالوا لأمه بهتانا عظيما ، وجعلته النصارى إلها وولدا ، وجعله الله - تعالى - روحه وكلمته ، فهدى الله أمة محمد [ ص: 59 ] - صلى الله عليه وسلم - إلى الحق من ذلك .

      وقال الربيع بن أنس في قوله عز وجل : ( فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ) ، أي عند الاختلاف أنهم كانوا على ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف ، أقاموا على الإخلاص لله - عز وجل - وحده وعبادته لا شريك له ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، فأقاموا على الأمر الأول الذي كان قبل الاختلاف ، وكانوا شهداء على الناس يوم القيامة ، شهداء على قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم شعيب وآل فرعون ، وأن رسلهم قد بلغوهم وأنهم كذبوا رسلهم ، وفي قراءة أبي بن كعب وليكونوا شهداء على الناس يوم القيامة ، ( والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) ، وكان أبو العالية - رحمه الله تعالى - يقول : في هذه الآية المخرج من الشبهات والضلالات والفتن .

      وفي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام يصلي من الليل قال : اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم . وفي الدعاء المأثور : اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه ، ولا تجعله ملتبسا علينا فنضل ، واجعلنا للمتقين إماما .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية