الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الباب الثالث فيما يعده العامة من العلوم المحمودة وليس منها .

وفيه بيان الوجه الذي قد يكون به بعض العلوم مذموما وبيان تبديل أسامي العلوم وهو الفقه والعلم والتوحيد والتذكير ، والحكمة ، وبيان القدر المحمود من العلوم الشرعية ، والقدر المذموم منها .

بيان علة ذم العلم المذموم ، لعلك تقول العلم هو معرفة الشيء على ما هو به وهو من صفات الله تعالى فكيف يكون الشيء علما ويكون مع كونه علما مذموما فاعلم أن العلم لا يذم لعينه وإنما يذم في حق العباد لأحد أسباب ثلاثة :

الأول أن يكون مؤديا إلى ضرر ما إما لصاحبه أو لغيره كما يذم علم السحر والطلسمات وهو حق إذ شهد القرآن له وأنه سبب يتوصل به إلى التفرقة بين الزوجين وقد سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومرض بسببه حتى أخبره جبريل عليه السلام بذلك ، وأخرج السحر من تحت حجر في قعر بئر

التالي السابق


(الباب الثالث)

(فيما تعده العامة) وتحسبه (من العلوم المحمودة) ويكبون على تحصيلها (و) الحال أنه (ليس منها) وفي بعض النسخ: منه، وفي أخرى: وليست منها (وفيه بيان الوجه الذي به يكون بعض العلوم مذموما وبيان [ ص: 216 ] تبديل أسامي العلوم وهو الفقه والعلم والتوحيد والتذكير، والحكمة، وبيان القدر المحمود من العلوم الشرعية، والقدر المذموم منها) .

اعلم أن لفظ العلم كما يطلق على ما ذكر بيانه في أول الكتاب يطلق على ما يراد به وهو أسماء العلوم المدونة كالنحو والفقه، فيطلق كأسماء العلوم، تارة على المسائل المخصوصة، وتارة على التصديقات بتلك المسائل عن دليلها، وتارة على الملكة الحاصلة من تكرر تلك التصديقات أي: ملكة استحضارها، فإطلاق لفظ العلم على كل منها إما حقيقة عرفية أو اصطلاحية أو مجاز مشهور، وقد يطلق على مجموع المسائل والمبادي التصورية والتصديقية والموضوعات وقد يطلق أسماء العلوم على مفهوم كلي إجمالي يفصل في تعريفه، فإن فصل نفسه كان حدا رسميا، وإن بين لازمه كان رسما اسميا .

وأما حده الحقيقي فإنما هو بتصور مسائله، أو بتصور التصديقات المتعلقة بها كذا في مفتاح السعادة .

(بيان علة ذم العلم المذموم، لعلك تقول) أصل (العلم) إدراك الشيء على حقيقته وهو (معرفة الشيء على ما هو به) وعليه (وهو من صفات الله سبحانه) الذاتية (فكيف يكون الشيء علما ويكون مع كونه علما مذموما) وهو إشكال ظاهر وبمثل هذا طعن بعض من لا خلاق له من العجم على العرب بأنهم يمدحون شيئا ويذمونه، والجواب أن مدحهم للشيء وذمه باعتبار الوجوه المختلفة، كمدح الدينار من حيث تقضى الحاجة به وذمه لكونه مجلبة للأوصاف الذميمة مثلا، فمدحه من وجه وذمه من وجه آخر، وهذا لا بأس به، كما بينه الشريشي في شرح المقامات الدينارية للحريري، وإليه أشار الشيخ بقوله (فاعلم أن العلم) من حيث هو هو (لا يذم لعينه) أي: من حيث كونه علما (وإنما يذم) لوجه آخر (في حق العباد لأحد أسباب ثلاثة: الأول أن يكون مؤديا إلى ضرر) أي: نوع من أنواع الضرر (إما بصاحبه) وهو الحامل له، (وإما بغيره) فكما أن الضرر مذموم مطلقا، فكذلك ما يتأذى بسببه فإنما جاء ذمه من هذا الوجه (كما يذم علم السحر والطلسمات) تقدم بيانهما (وهو) أي: علم السحر (حق) ثابت (إذ شهد القرآن له) في قصة هاروت وماروت، قال تعالى: ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق . وقال تعالى: ولا يفلح الساحر حيث أتى ، وقال تعالى: أفتأتون السحر وأنتم تبصرون ، وقال تعالى: يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ، وقال تعالى: ومن شر النفاثات في العقد ، والنفاثات السواحر .

(وإنه سبب يتوصل به إلى التفرقة بين الزوجين) كما شهد بذلك قوله تعالى: فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه (و) قد (سحر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومرض بسببه حتى أخبره جبريل، وأخرج السحر من تحت حجر في قعر بئر) قال العراقي: متفق عليه من حديث عائشة. اهـ .

قلت: أخرجه البخاري في كتاب الطب من طريق عيسى بن يونس وسفيان بن عيينة وأبي أسامة، ثلاثتهم عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة -رضي الله عنها- أما الطريق الأولى ففيها قالت: سحر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجل من بني زريق يقال له: لبيد بن الأعصم، حتى كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله، حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة، وهو عندي دعا ودعا ثم قال: يا عائشة، أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه، أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ فقال: مطبوب، قال: من طبه.؟ قال لبيد بن الأعصم قال: في أي شيء؟ قال: في مشط أو مشاطة وجف طلع من نخلة ذكر، قال: وأين هو؟ قال: في بئر ذروان، فأتاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، في ناس من أصحابه، فجاء فقال: يا عائشة، كأن ماءها نقاعة الحناء، وكأن رءوس نخلها رءوس الشياطين، قلت: يا رسول الله، أفلا استخرجته؟ قال: قد عافاني الله، فكرهت أن أثير على الناس شرا، فأمر بها فدفنت، قال البخاري: تابعه أبو أسامة وأبو حمزة وابن أبي الزناد عن هشام، وقال الليث: [ ص: 217 ] وابن عيينة عن هشام: من مشط ومشاقة، ويقال: المشاطة ما يخرج من الشعر، إذا مشط والمشاقة من مشاقة الكتان .

وأما الطريق الثانية ففيها قال: ومن طبه؟ قال لبيد بن الأعصم; رجل من بني زريق حليف ليهود، كان منافقا، فيها في جف طلعة ذكر تحت رعوفة في بئر ذروان، وفيها فقالت: فقلت أفلا تنشرت؟ فقال: أما والله فقد شفاني وأكره أن أثير على أحد من الناس شرا، والباقي سواء .

وأما الطريق الثالثة ففيها: في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر، قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذروان، قال: فذهب النبي -صلى الله عليه وسلم- في أناس من أصحابه إلى البئر فنظروا إليها، وعليها نخل وفيها فأمر بها، فدفنت والباقي سواء، وقد أخرجه كذلك مسلم والنسائي في الكبرى وابن ماجه كلهم من رواية هشام، قال العراقي: وفي الباب عن ابن عباس، وزيد بن أرقم، أما حديث ابن عباس، فأخرجه ابن مردويه في تفسيره من رواية عصام عن سليمان بن عبد الله عن عكرمة عنه، وعصام ضعيف، وأما حديث زيد بن أرقم فرواه ابن سعد في الطبقات من رواية الثوري عن الأعمش، عن ثمامة المحملي عنه، وقال ابن الملقن في شرحه على البخاري في تفسير المعوذتين، ويقال: إن العقد عقدها بنات لبيد وهي إحدى عشرة عقدة في وبر ومشط ومشاطة، أعطاها لغلام يهودي يخدمه وصورة من عجين فيها إبر مغروزة، فبعث عليا والزبير وعمارا فاستخرجوه، وشفاه الله تعالى، وقال المهلب في شرحه: مدار هذا الحديث على هشام بن عروة، وأصحابه مختلفون في استخراجه فأثبته سفيان في رواية من طريقين وأوقف سؤال عائشة على النشرة، ونفى الاستخراج عن عيسى بن يونس، وأوقف سؤالها النبي -صلى الله عليه وسلم- على الاستخراج ولم يذكر أنه جاوب على الاستخراج بشيء وحقق أبو أسامة جوابه صلى الله عليه وسلم، إذ سألته عائشة عن استخراجه بلا، فكان الاعتبار يعطي أن سفيان أولى بالقول لتقدمه في الضبط وأن الوهم على أبي أسامة في أنه لم يستخرجه ويشهد لذلك أنه لم يذكر النشرة، وكذلك عيسى بن يونس لم يذكر أنه صلى الله عليه وسلم، جاوب على استخراجه بلا، وذكر النشرة، والزيادة من سفيان مقبولة؛ لأنه أثبتهم لا سيما فيما حقق من الاستخراج، وفي ذكر النشرة هي جواب للنبي -صلى الله عليه وسلم- مكان الاستخراج، ويحتمل أن يحكم بالاستخراج لسفيان، ويحكم لأبي أسامة بقوله: لا على أنه استخرج الجف بالمشاقة، ولم يستخرج صورة ما في الجف; لئلا يراه الناس فيتعلمونه .

ثم اعلم أن السحر مرض من الأمراض، وعارض من العلل غير قادح في نبوته طاح بذلك طعن الملحدة - قاتلهم الله- وأنه كان يخيل إليه أنه فعل الشيء وما فعله، فذلك مما يجوز طروه عليه في أمر دنياه، دون ما أمر بتبليغه، وقد روي عن ابن المسيب، وعروة: سحر حتى كاد ينكر بصره، وعن عطاء الخراساني: حبس عن عائشة سنة، قال عبد الرزاق، وحبس عنها خاصة حين أنكر بصره لكن رواية ثلاثة أيام أو أربعة هي أصوب .




الخدمات العلمية