الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 534 ] سورة الكافرون قال الشيخ رحمه الله فصل في سورة قل يا أيها الكافرون للناس في وجه تكرير البراءة من الجانبين طرق حيث قال : { لا أعبد ما تعبدون } { ولا أنتم عابدون ما أعبد } ثم قال : { ولا أنا عابد ما عبدتم } { ولا أنتم عابدون ما أعبد } منها قولان مشهوران ذكرهما كثير من المفسرين هل كرر الكلام للتوكيد أو لنفي الحال والاستقبال ؟ .

                قال أبو الفرج : في تكرار الكلام قولان . أحدهما أنه لتأكيد الأمر وحسم أطماعهم فيه قاله الفراء . وقد أفعمنا هذا في سورة الرحمن قال ابن قتيبة : التكرير في سورة الرحمن للتوكيد . قال : وهذه مذاهب العرب أن التكرير للتوكيد والإفهام كما أن مذاهبهم الاختصار للتخفيف [ ص: 535 ] والإيجاز . لأن افتنان المتعلم والخطيب في الفنون أحسن من اقتصاده في المقام على فن واحد . يقول القائل : والله لا أفعله ثم والله لا أفعله إذا أراد التوكيد وحسم الأطماع من أن يفعله كما يقول : والله أفعله ؟ بإضمار " لا " إذا أراد الاختصار . ويقول للمرسل . المستعجل : اعجل اعجل والرامي : ارم ارم ; قال الشاعر :

                كم نعمة كانت لكم وكم وكم ؟

                وقال الآخر :

                هل سألت جموع كندة     يوم ولوا أين أينا ؟

                وربما جاءت الصفة فأرادوا توكيدها واستوحشوا من إعادتها ثانية لأنها كلمة واحدة فغيروا منها حرفا .

                قال ابن قتيبة : فلما عدد الله في هذه السورة إنعامه وذكر عباده آلاءه ونبههم على قدرته جعل كل كلمة فاصلة بين نعمتين لتفهيمهم النعم وتقريرهم بها كقولك للرجل : ألم أنزلك منزلا وكنت طريدا ؟ أفتنكر هذا ؟ ألم أحج بك وكنت صرورا ؟ أفتنكر هذا ؟ .

                قلت قال ابن قتيبة : تكرار الكلام في { قل يا أيها الكافرون } . [ ص: 536 ] لتكرار الوقت . وذلك أنهم قالوا : إن سرك أن ندخل في دينك عاما فادخل في ديننا عاما . فنزلت هذه السورة .

                قلت : هذا الكلام الذي ذكره بإعادة اللفظ وإن كان كلام العرب وغير العرب فإن جميع الأمم يؤكدون إما في الطلب وإما في الخبر بتكرار الكلام . ومنه { قول النبي صلى الله عليه وسلم والله لأغزون قريشا ثم والله لأغزون قريشا ثم والله لأغزون قريشا . ثم قال : إن شاء الله . ثم لم يغزهم } "

                . وروي عنه { أنه في غزوة تبوك كان يقود به حذيفة ويسوق به عمار فخرج بضعة عشر رجلا حتى صعدوا العقبة ركبانا متلثمين وكانوا قد أرادوا الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لحذيفة : قد قد ولعمار : سق سق } .

                فهذا أكثر لكن ليس في القرآن من هذا شيء . فإن القرآن له شأن اختص به لا يشبهه كلام البشر لا كلام نبي ولا غيره وإن كان نزل بلغة العرب . فلا يقدر مخلوق أن يأتي بسورة ولا ببعض سورة مثله .

                فليس في القرآن تكرار للفظ بعينه عقب الأول قط . وإنما في [ ص: 537 ] سورة الرحمن خطابه بذلك بعد كل آية لم يذكر متواليا . وهذا النمط أرفع من الأول .

                وكذلك قصص القرآن ليس فيها تكرار كما ظنه بعضهم .

                و { قل يا أيها الكافرون } ليس فيها لفظ تكرار إلا قوله { ولا أنتم عابدون ما أعبد } وهو مع الفصل بينهما بجملة .

                وقد شبهوا ما في سورة الرحمن بقول القائل لمن أحسن إليه وتابع عليه بالأيادي وهو ينكرها ويكفرها : ألم تك فقيرا فأغنيتك ؟ أفتنكر هذا ؟ ألم تك عريانا فكسوتك ؟ أفتنكر هذا ؟ ألم تك خاملا فعرفتك ؟ ونحو ذلك . وهذا أقرب من التكرار المتوالي كما في اليمين المكررة .

                وكذلك ما يقوله بعضهم إنه قد يعطف الشيء لمجرد تغاير اللفظ كقوله :

                فألفى قولها كذبا ومينا

                فليس في القرآن من هذا شيء . ولا يذكر فيه لفظا زائدا إلا لمعنى زائد وإن كان في ضمن ذلك التوكيد وما يجيء من زيادة اللفظ في مثل قوله { فبما رحمة من الله لنت لهم } وقوله { عما قليل ليصبحن نادمين } وقوله { قليلا ما تذكرون } فالمعنى مع هذا أزيد من المعنى بدونه . فزيادة اللفظ لزيادة المعنى وقوة اللفظ لقوة المعنى . والضم أقوى [ ص: 538 ] من الكسر والكسر أقوى من الفتح . ولهذا يقطع على الضم لما هو أقوى مثل " الكره " و " الكره " . فالكره هو الشيء المكروه كقوله { كتب عليكم القتال وهو كره لكم } والكره المصدر كقوله { طوعا وكرها } . والشيء الذي في نفسه مكروه أقوى من نفس كراهة الكاره .

                وكذلك " الذبح " و " الذبح " فالذبح : المذبوح كقوله { وفديناه بذبح عظيم } والذبح : الفعل . والذبح . مذبوح وهو جسد يذبح فهو أكمل من نفس الفعل .

                قال أبو الفرج : والقول الثاني أن المعنى : { لا أعبد ما تعبدون } في حالي هذه { ولا أنتم } في حالكم هذه { عابدون ما أعبد } { ولا أنا عابد ما عبدتم } في ما استقبل وكذلك { أنتم } فنفى عنهم في الحال والاستقبال . وهذا في قوم بأعيانهم أعلمه الله أنهم لا يؤمنون كما ذكرناه عن مقاتل . فلا يكون حينئذ تكرار . قال : وهذا قول ثعلب والزجاج .

                قلت : قد ذكر القولين جماعة لكن منهم من جعل القول الأول قول أكثر أهل المعاني . فقالوا واللفظ للبغوي : معنى الآية : لا أعبد ما تعبدون في الحال ولا أنا عابد ما عبدتم في الاستقبال [ ص: 539 ] ولا أنتم عابدون ما أعبد في الاستقبال . وهذا خطاب لمن سبق في علم الله أنهم لا يؤمنون .

                قال وقال أكثر أهل المعاني : نزل بلسان العرب على مجاري خطابهم . ومن مذاهبهم التكرار إرادة للتوكيد والإفهام كما أن من مذاهبهم الاختصار للتخفيف والإيجاز .

                قلت : ومن المفسرين من لم يذكر غير الثاني منهم المهدوي وابن عطية . قال ابن عطية : لما كان قوله : { لا أعبد } محتملا أن يراد به الآن ويبقى المستأنف منتظرا ما يكون فيه من عبادته جاء البيان بقوله { ولا أنا عابد ما عبدتم } أي أبدا ما حييت . ثم جاء قوله : { ولا أنتم عابدون ما أعبد } الثاني حتما عليهم أنهم لا يؤمنون أبدا كالذين كشف الغيب عنهم كما قيل لنوح { أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن } أما إن هذا فخطاب لمعينين وقوم نوح قد عموا بذلك .

                قال : فهذا معنى الترديد الذي في السورة وهو بارع الفصاحة . وليس هو بتكرار فقط بل فيه ما ذكرته مع الإبلاغ والتوكيد وزيادة الأمر بيانا وتبريا منهم .

                قلت : هذا القول أجود من الذي قبله من جهة بيانهم لمعنى [ ص: 540 ] زائد على التكرير . لكن فيه نقص من جهة أخرى . وهو جعلهم هذا خطابا لمعينين فنقصوا معنى السورة من هذا الوجه ، وهذا غلط .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية