الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              حدثنا إسحاق بن أحمد بن علي ، أخبرنا إبراهيم بن يوسف ، ثنا أحمد بن أبي الحواري ، قال : سمعت أبا سليمان ، يقول : " كنت بالعراق أنظر إلى قصورها ، وإلى مراكبها فما تنازعني إلى شيء منها ، وأمر بذلك الرفل فأميل عن الحمار شهوة له ، فحدثت به مضاء بن عيسى فقال : آيسها من ذلك فلم ترده ، وأطعمها من هذه فمالت إليه " .

              قال : وسمعت أبا سليمان يقول : " ما نجب إلا بطاعتهم المؤدبين وأنت تعصيني ، قد أمرتك أن لا تفتح أصابعك في الثريد ضمها " .

              قال : وسمعت أبا سليمان ، يقول : " خير ما أكون أبدا إذا لصق بطني بظهري " .

              [ ص: 274 ] قال : وسمعت أبا سليمان يقول : " لم يبلغ الأبدال ما بلغوا بصوم ولا صلاة ، ولكن بالسخاء ، وشجاعة القلوب ، وسلامة الصدور ، وذمهم أنفسهم عند أنفسهم " .

              وقال : وسمعت أبا سليمان يقول : " لو اجتمع الناس كلهم على أن يضعوني كاتضاعي عند نفسي ما أحسنوا " .

              قال : وسمعت أبا سليمان يقول : " من صارع الدنيا صرعته " .

              حدثنا إسحاق ، ثنا إبراهيم ، ثنا أحمد ، قال : قلت لأبي سليمان : سألت الله تعالى بين الركن والباب أن يذهب عني شهوة الطعام والشراب واللباس والطيب والنساء ، قال : " ويحك أي شيء يعدد عليه ؟ قل : اللهم ما أزراني عندك فأذهبه عني " .

              قال : وسأل محمود بن خالد أبا سليمان وأنا حاضر ، فقال : يا أبا سليمان ما أتقرب به إليه ؟ فبكى أبو سليمان ثم قال : " مثلي يسأل عن هذا ؟ أقرب ما يتقرب به إليه أن يطلع من قلبك على أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو " .

              قال : وقلت لأبي سليمان : يكون الرجل بإفريقية والآخر بسمرقند وهما أخوان ؟ قال : " نعم " قلت : وكيف ذلك ؟ قال : " تكون نيته متى لقيه واساه ، فإذا كانت نيته كذلك فهو أخوه " .

              قال : وسمعت أبا سليمان ، يقول : " عودوا أعينكم البكاء وقلوبكم التفكر " .

              قال : وسمعت أبا سليمان يقول : " الورع من الزهد بمنزلة القناعة من الرضا ، هذا أوله وهذا أوله " .

              حدثنا إسحاق ، ثنا إبراهيم ، ثنا أحمد ، قال : سمعت أبا سليمان ، يقول : " أهل الزهد في الدنيا على طبقتين : منهم من يزهد في الدنيا فلا يفتح له فيها روح الآخرة ، ومنهم من إذا زهد في الدنيا فتح له فيها روح الآخرة فليس شيء أحب إليه من البقاء ليطيع " .

              وقال لي أبو سليمان : " لو لم يكن في ترك الأكل شيء إلا علة دخول الخلاء ! " .

              وقال لي أبو سليمان : " لأن أترك لقمة واحدة من عشائي أحب إلي من أن آكلها وأقوم من أول الليل إلى آخره " .

              قال : وسمعت أبا سليمان يقول : " ما على ظهر الأرض شيء أشتهيه " .

              قال : وسمعت أبا سليمان يقول : " الثياب ثلاثة : ثوب لله ، وثوب لنفسك ، وثوب للناس ، وهو شر الثلاثة ، فما كان لله فهو أن تجد بثلاثين وتشتري بعشرين وتقدم عشرة ، وما كان لنفسك فهو أن تريد لينه على جسدك ، وما كان للناس فهو [ ص: 275 ] أن تريد حسنه ، وقد تجمع في الثوب الواحد لله ولنفسك " .

              حدثنا عبد الله ، ثنا إسحاق ، ثنا أحمد ، قال : سمعت أبا سليمان ، يقول : " لأهل الطاعة بالهم ألذ من أهل اللهو بلهوهم ، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا " .

              قال : وسمعت أبا سليمان يقول : " لو لم يبك العاقل فيما بقي من عمره إلا على لذة ما فاته من الطاعة فيما مضى كان ينبغي له أن يبكيه حتى يموت ، قلت له : فليس يبكي على لذة ما مضى إلا من وجد لذة ما بقي ، فقال : ليس العجب ممن يجد لذة الطاعة ، إنما العجب ممن وجد لذتها ثم تركها كيف صبر عنها ؟ " .

              قال : وسمعت أبا سليمان ، يقول : " يجوز لباس الصوف لمن لبسه يريد بقاءه ويجوز لباسه في السفر ، ومن لبسه في الدنيا فلا يلبسه . . . " .

              وقال : وسمعت أبا سليمان يقول : " صاحب العيال أعظم أجرا لأن ركعتين منه تعدل سبعين من العزب ، والمتفرغ يجد من لذة العبادة ما لا يجدها صاحب العيال ؛ لأنه ليس في شيء يشغله عن شيء " .

              وسمعت أبا سليمان - وقيل له : ما له من يؤنسه في البيت فارتاع ، وقال - : " لا أنسى الله به أبدا " .

              حدثنا محمد بن عبد الله أبو عمر ، ثنا محمد بن عبد الله بن معروف ، قال : قرأت على أبي علي سهل بن علي بن سهل الدوري ، ثنا أبو عمران موسى بن عيسى ، قال أبو سليمان : " أنجى الأسباب من الشر الاعتزال في البلد الذي يعرف فيه ، والتخلص إلى خمول الذكر أين كنت ، وطول الصمت ، وقلة المخالطة ، والاعتصام بالرب ، والعض على فلق الكسر ، وما دنؤ من اللباس ما لم يكن مشهورا ، والتمسك بعنان الصبر ، والانتظار للفرج ، وترقب الموت ، والاستعداد لحسن النظر مع شدة الخوف .

              ومن دواعي الموت ذم الدنيا في العلانية ، واعتناقها في السر ، ما لم يحسن رعاية نفسه أسرع به هواه إلى الهلكة ، من لم ينظر لنفسه لم ينظر لها غيره ، لا ينفع الهالك نجاة المعصوم ، ولا يضر الناجي تلف الهالك ، يجمع الناس موقف واحد جميعا وهم فرادى ، كل شخص منهم بنفسه مشغول وعنها وحده مسئول ، فهو بصالح عمله مسرور ، ومن [ ص: 276 ] شر عمله مستوحش محزون ، ومرارة التقوى اليوم حلاوة في ذلك اليوم ، والأعمى من عمي بعد البصر ، والهالك من هلك في آخر سفره وقد قارب المنزل ، والخاسر من أبدى للناس صالح عمله ، وبارز بالقبيح من هو أقرب إليه من حبل الوريد " .

              حدثنا أبي ، ثنا أحمد بن محمد بن عمر ، ثنا الحسين بن عبد الله بن شاكر ، ثنا أحمد بن أبي الحواري ، قال : قال لي أبو سليمان : " إن استطعت أن لا تلبس إلا لباسا يطلع الله عز وجل من قلبك أنك لا تريد دونه فافعل " .

              حدثنا أبي ، ثنا أحمد ، ثنا الحسين ، قال : سمعت أحمد بن أبي الحواري ، يقول : سمعت أبا سليمان ، يقول : " من سالت من عينيه قطرة - يعني دمعة - يوم الجمعة قبل الرواح أوحى الله تعالى إلى الملك صاحب الشمال : اطو صحيفة عبدي فلا تكتب عليه خطيئة إلى مثلها من الجمعة الأخرى " ، قال أبو سليمان : " فلقيت أبا سهل الصفار بالبصرة فحدثته بهذا الحديث ، فقال لي : يا أبا سليمان إن لم يكن في بكائه شيء إلا طي الصحيفة من الجمعة إلى الجمعة فما له شيء - أي عمل - مع البكاء .

              قال : وحدثت أبا سليمان أنه بلغني أن مالك بن دينار أهدي له ركوة فلما كان في المسجد حدثته نفسه بها أي مخافة أن تسرق الركوة فجاء فأخرجها ، فقال أبو سليمان : " هذا من ضعف الصوفيين ، هو قد زهد في الدنيا فما عليه لو ذهبت الركوة ؟ " .

              قال : وسمعت أبا سليمان يقول : " في الجنة قيعان فإذا أخذ ابن آدم في ذكر ربه عز وجل أخذت الملائكة في غرس الأشجار ، فربما غرس بعضهم وأمسك بعضهم ، فيقول الذي يغرس للذي لا يغرس : ما لك يا فلان ؟ قال : فتر صاحبي " .

              قال : وسمعت أبا سليمان ، ورأى خليفة للكلبيين يوم الجمعة كانوا يلبسون عمائم صفرا وقلانس طوالا فقال : " قد تركوكم وآخرتكم ، فاتركوهم ودنياهم " .

              قال : وسمعت أبا سليمان يقول : " إن في خلق الله عز وجل خلقا ما تشغلهم الجنات وما فيها عنه ، فكيف يشتغلون بالدنيا ؟ " .

              حدثنا عبد الله بن محمد ، ثنا إسحاق بن أبي حسان ، ثنا أحمد بن أبي الحواري ، قال : سمعت أبا سليمان ، يقول : " ما خلق الله خلقا أهون علي من [ ص: 277 ] إبليس ، لولا أن الله تعالى أمرني أن أتعوذ منه ما تعوذت منه أبدا " ، وقال : " شيطان الجن أهون علي من شيطان الإنس ، شيطان الإنس يتعلق بي فيدخلني في المعصية ، وشيطان الجن إذا تعوذت منه خنس عني " .

              قال : وسمعت أبا سليمان يقول : " أرأيت لو ترك شهوة فهان عليه تركها كيف لا يترك الأخرى ؟ " ، فسكت فلم أجبه ، فقال : " لعظمتها الآن في قلبه ، ولو تركها لهانت عليه كما هانت الأخرى " .

              قال : وسمعت أبا سليمان يقول : " إنما تضر الشهوة من تكلفها ، فأما من أصابها بلا تكلف فلا تضره " ، قلت لأبي سليمان : يعاقب على إصابة الشهوة ؟ قال : " الله تعالى أكرم أن يبيح شيئا ثم يعاقب عليه ، ولكن فيه تنقيص " .

              حدثنا عبد الله بن محمد ، ثنا إسحاق ، قال : سمعت سلمة الغويطي يقول : " إني لمشتاق إلى الموت منذ أربعين سنة منذ فارقت الحسن بن يحيى " ، قلت له : ولم ؟ قال : " لو لم يشتق العاقل إلى لقائه عز وجل لكان ينبغي له أن يشتاق إلى الموت " ، قال : فحدثت به أبا سليمان فقال : ويحك : لو أعلم أن الأمر كما يقول لأحببت أن تخرج نفسي الساعة ، ولكن كيف بانقطاع الطاعة والحبس في البرزخ وإنما يلقاه بعد البعث ؟ قال أحمد : فهو في الدنيا أحرى أن يلقاه - يعني بالذكر - .

              حدثنا عبد الله ، ثنا إسحاق ، ثنا أحمد ، قال : سمعت بعض أصحابنا يقول - وأظنه أبا سليمان - قال : " إن لإبليس شيطانا يقال له : المتقاضي ، يتقاضى ابن آدم بعد عشرين سنة ليخبر بعمل قد عمله سرا ؛ ليظهره فيربح عليه ما بين أجر السر والعلانية " .

              حدثنا محمد بن جعفر ، ثنا عبد الله بن محمد بن يعقوب ، ثنا أبو حاتم ، ثنا أحمد بن أبي الحواري ، قال : سمعت أبا سليمان ، يقول : دخلنا على سفيان الثوري وهو في بيت بمكة جالس في الزاوية على جلد ، فقال : " ما جاء بكم ؟ فوالله لأنا إذا لم أركم خير مني إذا رأيتكم " ، قال أبو سليمان : ثم لم نبرح حتى تبسم ، قال أحمد : لما جاءه الناس جاءته الغفلة .

              قال : وسمعت أبا سليمان يقول : " من سره أن [ ص: 278 ] يشهد يوم القيامة فليقرأ آخر الزمر " .

              وسمعت أبا سليمان يقول : " القلب بمنزلة المرآة إذا جليت لا يمر شيء من الذباب إلى الفيل إلا مثل لها " .

              قال : وسمعت أبا سليمان يقول : " إن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ، وإن الجوع عنده في خزائن مدخر لا يعطيه إلا من أحب خاصة " .

              فقلت لأبي سليمان : صليت صلاة فوجدت لها لذة ، فقال : " أي شيء لذلك منها ؟ " قال : قلت : لم يرني أحد ، قال : " أنت ضعيف حين خطر الناس على قلبك في الخلاء " .

              قال : وقلت لأبي سليمان : إني أريد من الدنيا أكثر مما أعطى ، قال : " لكني أعطيت منها أكثر مما أريد " .

              حدثنا أبو عمر محمد بن عبد الله ، ثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار ، قال : قرأت على سهل بن علي بن سهل ، ثنا أبو عمران موسى بن علي الجصاص ، قال : قال أبو سليمان : " طوبى لمن حذر سكرات الهوى وثورة الغضب والفرح بشيء من الدنيا فصبر على مرارة التقوى ، وطوبى لمن لزم الجادة بالانكماش والحذر ، وتخلص من الدنيا بالثواب والهرب كهربه من السبع الكلب ، طوبى لمن استحكم أموره بالاقتصاد ، واعتقد الخير للمعاد وجعل الدنيا مزرعة ، وتنوق في البذر ؛ ليفرح غدا بالحصاد ، طوبى لمن انتقل بقلبه من دار الغرور ، ولم يسع لها سعيها فيبرز من حظوات الدنيا وأهلها منه على بال ، اضطربت عليه الأحوال ، من ترك الدنيا للآخرة ربحهما ، ومن ترك الآخرة للدنيا خسرهما ، وكل أم يتبعها بنوها ، بنو الدنيا تسلمهم إلى خزي شديد ، ومقامع من حديد وشراب الصديد ، وبنو الآخرة تسلمهم إلى عيش رغد ونعيم الأبد في ظل ممدود وماء مسكوب وأنهار تجري بغير أخدود ، وكيف يكون حكيما من هو لها يهوى ركونا ؟ وكيف يكون راهبا من يذكر ما أسلفت يداه ولا يذوب ؟ الفكر في الدنيا حجاب عن الآخرة وعقوبة لأهل الولاية ، والفكرة في الآخرة تورث الحكمة وتحيي القلب ، ومن نظر إلى الدنيا مولية صح عنده غرورها ، ومن نظر إليها مقبلة بزينتها شاب في قلبه حبها ، ومن تمت معرفته اجتمع همه في أمر الله ، وكان أمر الله شغله " .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية