الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 706 ] بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة المسد

وهي مكية بإجماع.

قوله عز وجل:

تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارا ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد

روي في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه وأنذر عشيرتك الأقربين قال: يا صفية بنت عبد المطلب ، ويا فاطمة بنت محمد ، لا أملك لكما من الله شيئا، سلاني من مالي ما شئتما، ثم صعد الصفا فنادى بطون قريش: يا بني فلان، يا بني فلان ، وروي أنه صاح بأعلى صوته: يا صباحاه، فاجتمعوا إليه من كل وجه، فقال لهم: أرأيتم لو قلت لكم إني أنذركم خيلا بسفح هذا الجبل، أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، قال: إني نذير بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبا لك اليوم: ألهذا، جمعتنا ؟ فافترقوا عنه ونزلت السورة.

و"تبت" معناه: خسرت، والتباب: الخسار والدمار، وأسند ذلك إلى اليدين من حيث اليد موضع الكسب والربح وضم ما يملك، ثم أوجب تعالى عليه أنه قد تب، أي [ ص: 707 ] حتم ذلك عليه، وفي قراءة عبد الله بن مسعود : "تبت يدا أبي لهب. وقد تب". وأبو لهب هو عبد العزى بن عبد المطلب، وهو عم النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن سبقت له الشقاوة. وقرأ ابن كثير ، وابن محيصن: "أبي لهب" بسكون الهاء، وقرأ الباقون بتحريك الهاء، ولم يختلفوا في فتحها في "ذات لهب".

وقوله تعالى: ما أغنى عنه ماله وما كسب يحتمل أن تكون "ما" نافية، ويكون الكلام خبرا عن أن جميع أحواله الدنياوية لم تغن عنه شيئا حين حتم عذابه بعد موته، ويحتمل أن تكون "ما" استفهاما على وجه التقرير، أي: أين الغناء الذي لماله ولكسبه؟ و"ما كسب" يراد به عرض الدنيا من عقار ونحوه، أو ليكون الكلام دالا على أنه تعب في تكسبه، لم يجئه عفوا لا بميراث وهبة ونحوه. وقال كثير من المفسرين: المراد بـ"ما كسب" بنوه، فكأنه تعالى قال: ما أغنى عنه ماله وولده، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير ما كسب الرجل من عمل يده، وإن ولد الرجل من كسبه". وروي أن أولاد أبي لهب اختصموا عند ابن عباس رضي الله عنهما فتنازعوا وتدافعوا، فقام ابن عباس ليحجز بينهم فدفعه أحدهم فوقع على فراشه، وكان قد كف بصره، فغضب وصاح: أخرجوا عني الكسب الخبيث، وقرأ أبي بن كعب ، والأعمش : "وما اكتسب".

وقوله تعالى: سيصلى نارا ذات لهب حتم عليه بالنار، وإعلام بأنه يوافي على كفره، وانتزع أهل العلم بالأصول من هذه الآية جواز تكليف ما لا يطاق، وأنه موجود في قصة أبي لهب، وذلك أنه مخاطب مكلف أن يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومكلف أن يؤمن بهذه السورة وصحتها، فكأنه قد كلف أن يؤمن، وأن يؤمن أنه لا يؤمن، قال الأصوليون: ومتى ورد تكليف ما لا يطاق فهي أمارة من الله تعالى أنه قد حتم عذابه، أي عذاب ذلك المكلف، لقصة أبي لهب. وقرأ الجمهور: "سيصلى" بفتح الياء، وقرأ ابن كثير والحسن ، وابن مسعود بضمها.

[ ص: 708 ] وقوله تعالى: وامرأته حمالة الحطب هي أم جميل، أخت أبي سفيان بن حرب ، عمة معاوية بن أبي سفيان . وعطف قوله تعالى: "وامرأته" على الضمير المرفوع دون أن يؤكد الضمير بسبب الحائل الذي ناب مناب التأكيد، وكانت أم جميل هذه مؤذية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بلسانها وغاية قدرتها، وقال ابن عباس : كانت تجيء بالشوك فتطرحه في طريق النبي صلى الله عليه وسلم وطريق أصحابه ليعقرهم، فبذلك سميت حمالة الحطب، وعلى هذا التأويل فـ "حمالة" معرفة يراد به الماضي. وقيل: إن قوله تعالى: حمالة الحطب استعارة لذنوبها التي تحطبها على نفسها لآخرتها، فـ "حمالة" -على هذا- نكرة يراد به الاستقبال، وقيل: هي استعارة لسعيها على الدين والمؤمنين، كما تقول: "فلان يحطب على فلان"، فكانت هي تحطب على المؤمنين، وفي حبل المشركين، وقال الشاعر:


إن بني الأدرم حمالوا الحطب هم الوشاة في الرضا وفي الغضب



وقرأ ابن مسعود : "ومريئته". وقرأ الجمهور: "حمالة" بالرفع، وقرأ عاصم : "حمالة" بالنصب على الذم، وهي قراءة الحسن والأعرج وابن محيصن، وقرأ ابن مسعود : "حمالة للحطب" بالرفع ولام الجر وقرأ أبو قلابة : "حاملة" بكسر الميم بعد الألف.

قوله تعالى: في جيدها حبل من مسد ، قال ابن عباس ، والضحاك ، والسدي ، [ ص: 709 ] وابن زيد : الإشارة إلى الحبل حقيقة، وهو الذي ربطت به الشوك وحطبه، قال السدي : والمسد الليف، وقيل: ليف المقل ذكره أبو الفتح، وقال ابن زيد : هو شجر باليمن يسمى المسد، تصنع منه الحبال، وقال النابغة :


مقذوفة بدخيس النحض بازلها له     صريف صريف القعو بالمسد



القعو: البكرة، والمسد: الحبل. وقال عروة بن الزبير ، ومجاهد ، وغيرهما: هذا الكلام استعارة، والمراد: سلسلة من حديد في جهنم، ذرعها سبعون ذراعا، ونحو هذا من العبارات، وقال قتادة : "حبل من مسد": قلادة من ودع، قال ابن المسيب : كانت لها قلادة فاخرة فقالت: لأنفقنها على عداوة محمد.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

فإنما عبر عن قلادتها بحبل من مسد على جهة التفاؤل لها، وذكر تبرجها في هذا السعي الخبيث، وروي في الحديث أن هذه السورة لما نزلت وقرئت بلغت أم جميل، فجاءت أبا بكر رضي الله عنه وهو مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، فقالت: يا أبا بكر ، بلغني أن صاحبك هجاني ولأفعلن وأفعلن، وإني لشاعرة، وقد قلت فيه:


مذمما قلينا ودينه أبينا



فسكت أبو بكر ، ومضت هي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد حجبني عنها ملائكة فما رأتني، وكفى الله شرها


كمل تفسير سورة [المسد]والحمد لله رب العالمين.

التالي السابق


الخدمات العلمية