الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ومن فروع هذه المسألة بنت الرجل من الزنا بأن زنى ببكر وأمسكها حتى ولدت بنتا حرم عليه تزوجها عندنا ، وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يكون حراما وله في البنت الملاعنة التي لم يدخل بالأم قولان واستدل ، فقال : نص التحريم قوله تعالى { وبناتكم } ، وذلك يتناول البنت المضافة إليه نسبا والبنت من الزنا غير مضافة إليه نسبا بل هي حرام الإضافة إليه نسبا ، ولو أثبتنا الحرمة فيها كان إثبات الحرمة بالزنا وبه فارق جانبها فإن الابن من الزنا يضاف إلى الأم نسبا فكانت هي حراما عليه لقوله تعالى { حرمت عليكم أمهاتكم } وتبين بهذا التفريق أن هذه الحرمة الثابتة شرعا تنبني على ثبوت النسب شرعا والنسبة إلى الزاني غير ثابتة من كل وجه ، فكذا هنا ، وهكذا يقول على أحد القولين في بنت الملاعنة وعلى القول الآخر يفرق بينهما فيقول : النسب هناك كان ثابتا باعتبار الفراش لكن انقطع باللعان وبقي موقوفا على حقه لو أكذب نفسه يثبت النسب منه ، ولا يثبت من غيره ، وإن أعاده فيجوز إبقاء الحرمة وهنا النسب لم يكن ثابتا أصلا [ ص: 207 ] لانعدام الفراش ، ولا هو بعرض الثبوت منه ولنا أن ولد الزنا بعضه فتكون محرمة عليه كولد الراشدة ، وهذا لأن البعضية باعتبار الماء ، وذلك لا يختلف حقيقته بالملك وعدم الملك فالولد المخلوق من الماءين يكون بعض كل واحد منهما { قال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها هي بضعة مني } والبعضية علة صالحة لإثبات الحرمة ; لأن الإنسان كما لا يستمتع بنفسه لا يستمتع ببعضه إلا أن النسب لا يثبت لا لانعدام البعضية بل للاشتباه ; لأن الزانية يأتيها غير واحد ، ولو أثبتنا النسب بالزنا ربما يؤدي إلى نسبة ولد إلى غير أبيه ، وذلك حرام بالنص حتى إن في جانبها لما كان لا يؤدي إلى هذا الاشتباه كان النسب ثابتا ، ولأن قطع النسب شرعا لمعنى الزجر عن الزنا فإنه إذا علم أن ماءه يضيع بالزنا يتحرز عن فعل الزنا ، وذلك يوجب إثبات الحرمة ; لأن معنى الزجر عن الزنا به يحصل فإنه إذا علم أنه بسبب الحرام مرة يفوته حلال كثير يمتنع من مباشرة الحرام فلهذا أثبتنا الحرمة .

وإن لم يثبت النسب هنا إذا عرفنا هذا فنقول كما ثبتت حرمة المصاهرة بالوطء تثبت بالمس والتقبيل عن شهوة عندنا سواء كان في الملك أو في غير الملك ، وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا تثبت الحرمة بالتقبيل والمس عن شهوة أصلا في الملك أو في غير الملك حتى إنه لو قبل أمته ، ثم أراد أن يتزوج ابنتها عنده يجوز . وكذلك لو تزوج امرأة وقبلها بشهوة ، ثم ماتت عنده يجوز له أن يتزوج ابنتها بناء على أصله أن حرمة المصاهرة تثبت بما يؤثر في إثبات النسب والعدة ، وليس للمس والتقبيل عن شهوة تأثير في إثبات النسب والعدة ، فكذلك في إثبات الحرمة وقاس بالنكاح الفاسد فإن التقبيل والمس فيه لا يجعل كالدخول في إيجاب المهر والعدة ، وكذلك في إيجاب الحل للزوج الأول ، فكذا هنا ، ولكنا نستدل بآثار الصحابة رضي الله عنهم ، فقد روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال : إذا جامع الرجل المرأة أو قبلها بشهوة أو لمسها بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة حرمت على أبيه وابنه وحرمت عليه أمها وابنتها . وعن مسروق رحمه الله تعالى قال : بيعوا جاريتي هذه أما إني لم أصب منها ما يحرمها على ولدي من المس والقبلة ، ولأن المس والتقبيل سبب يتوصل به إلى الوطء فإنه من دواعيه ومقدماته فيقام مقامه في إثبات الحرمة كما أن النكاح الذي هو سبب الوطء شرعا يقام مقامه في إثبات الحرمة إلا فيما استثناه الشرع وهي الربيبة ، وهذا لأن الحرمة تنبني على الاحتياط فيقام السبب الداعي فيه مقام الوطء احتياطا ، وإن لم يثبت به سائر [ ص: 208 ] الأحكام كما تقام شبهة البعضية بسبب الرضاع مقام حقيقة البعضية في إثبات الحرمة دون سائر الأحكام ، ولو نظر إلى فرجها بشهوة تثبت به الحرمة عندنا استحسانا ، وفي القياس لا تثبت ، وهو قول ابن أبي ليلى والشافعي - رحمهما الله تعالى - لأن النظر كالتفكر ; إذ هو غير متصل بها .

ألا ترى أنه لا يفسد به الصوم ، وإن اتصل به الإنزال ، ولأن النظر لو كان موجبا للحرمة لاستوى فيه النظر إلى الفرج وغيره كالمس عن شهوة ، ولكنا تركنا القياس بحديث أم هانئ رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من نظر إلى فرج امرأة بشهوة حرمت عليه أمها وابنتها } وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه جرد جارية ، ثم نظر إليها ، ثم استوهبها منه بعض بنيه ، فقال : أما إنها لا تحل لك ، وفي الحديث { ملعون من نظر إلى فرج امرأة وابنتها } ، ثم النظر إلى الفرج بشهوة نوع استمتاع ; لأن النظر إلى المحل إما لجمال المحل أو للاستمتاع ، وليس في ذلك الموضع جمال ليكون النظر لمعنى الجمال فعرفنا أنه نوع استمتاع كالمس بخلاف النظر إلى سائر الأعضاء ، ولأن النظر إلى الفرج لا يحل إلا في الملك بمنزلة المس عن شهوة بخلاف النظر إلى سائر الأعضاء ، ثم معنى الشهوة المعتبرة في المس والنظر أن تنتشر به الآلة أو يزداد انتشارها ، فأما مجرد الاشتهاء بالقلب غير معتبر .

ألا ترى أن هذا القدر يكون من الشيخ الكبير الذي لا شهوة له ، والنظر إلى الفرج الذي تتعلق به الحرمة هو النظر إلى الفرج الداخل دون الخارج ، وإنما يكون ذلك إذا كانت متكئة أما إذا كانت قاعدة مستوية أو قائمة لا تثبت الحرمة بالنظر ، ثم حرمة المصاهرة بهذه الأسباب تتعدى إلى آبائه ، وإن علوا وأبنائه ، وإن سفلوا من قبل الرجال والنساء جميعا ، وكذلك تتعدى إلى جداتها وإلى نوافلها لما بينا أن الأجداد والجدات بمنزلة الآباء والأمهات ، والنوافل بمنزلة الأولاد فيما تنبني عليه الحرمة ، وذلك كله مروي عن إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى . وعلى هذا إذا جامع الرجل أم امرأته حرمت عليه امرأته نقل ذلك عن أبي بن كعب رضي الله عنه ، وكان المعنى فيه أن الحرمة بسبب المصاهرة مثل الحرمة بالرضاع والنسب ، وذلك كما يمنع ابتداء النكاح يمنع بقاء النكاح ، فكذلك هذا يمنع بقاء النكاح كما يمنع ابتداءه

التالي السابق


الخدمات العلمية