الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ ص: 955 ] ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين ( 258 أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم

                                                          * * * [ ص: 956 ] بعد أن بين سبحانه تحكم الطغيان في نفوس الكافرين ذكر سبحانه وتعالى لونا من ألوان الطغيان أو أظهر ألوانه فقال :

                                                          ألم تر وفي هذا تصوير لملك من الملوك يدفعه اغتراره بملكه إلى أن ينكر رب العالمين ويسأل إبراهيم عنه ، وتصوير لطاغية من طغاة الدنيا يدفعه طغيان الغرور على نفسه ثم طغيانه على شعبه إلى أن يدعي الربوبية .

                                                          فلننظر إلى تلك المحاجة : ينبهنا الله سبحانه وتعالى إلى تلك الحال الشاذة فيقول سبحانه : ألم تر وقد بينا ما في هذا التركيب من أسرار بلاغية عند تفسير قوله تعالى : ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل وخلاصة المعنى : لقد عرفت هذه القصة بالخبر القرآني اليقيني معرفة واضحة جلية بينة كأنها في تعينها ووضوحها المعرفة بطريق الرؤية البصرية والنظر ، وهذا على أن رأى بمعنى أبصر . وإن كانت رأى بمعنى علم فالمعنى : تأمل وانظر بعين بصيرتك وادرس حال تلك النفس الطاغية التي تحمل الناس على الظلمات بطغيانها وإذا تأملتها علمت أيها المكلف أو أيها القارئ للقرآن إلى أي مدى يصل الطغيان من الظلمات والضلالات .

                                                          ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه حاجه : أي بادله المحجة وفي تسمية كلامه حجة إنما هو من قبيل المماثلة اللفظية أو هو حجة في نظره السقيم الذي أفسد تفكيره وأضله فقد توهم وتخيل ثم ظن فضل عن معرفة نفسه وعن معرفة الحق ووقع في أمور لا يقبلها أي عقل سليم .

                                                          وما السبب في كل ذلك الضلال ; هو شيء واحد هو أن الله سبحانه وتعالى أعطاه الملك ; ولذلك قال تعالى : أن آتاه الله الملك أي أن سبب تلك المحاجة التي تدل على مقدار ضلاله وطغيانه هو أن الله سبحانه وتعالى آتاه أي أعطاه الملك والسلطان الدنيوي وهو زائل فقوله : أن آتاه الله الملك مجرور بحرف جر محذوف هو الباء أو اللام ، أي أن الذي بعثه على ذلك الإسراف في القول والوقوع في هذا الضلال هو نعمة الملك التي أنعم الله بها عليه فجعلته مسرفا في الضلال ذلك الإسراف المردي .

                                                          [ ص: 957 ] وفي الكلام إشارة إلى أن هذا ما كان يسوغ له أن ينكر وأن يحاج في إنكاره ، لأنه يحاج في موضوع لا يقبل الجدل والمناقشة ، لأنه يناقش في ربه خالقه وخالق كل شيء ، فالضمير في " ربه " يعود إلى ذلك الملك الطاغي المتجبر ، ويصح أن يعود الضمير إلى إبراهيم وإني اختار الأول ، لأن الطاغية هو المتحدث عنه فالضمير يعود إليه .

                                                          إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت هذا كلام نبي الله إبراهيم وخليله ، كلام معترف بالربوبية عرف ربه بأوضح ما يعرف به وبأروع آثار قدرته في هذا الوجود وبأبعدها أثرا في نفس العاقل المتفكر المتدبر وهو الحياة والموت لأنهما أشد الأمور أثرا في نفس كل إنسان ذي حس وشعور وعقل وأفاد القول صيغة الحصر إذ قال سبحانه : ربي الذي يحيي ويميت وفي ذلك تعريف المبتدأ والخبر وتعريفهما يفيد القصر ، فالمعنى أنه وحده سبحانه هو الذي يحيي ويميت ولا أحد سواه يفعل ذلك . ومعنى يحيي ينشئ الحياة ويوجدها ، ومعنى يميت يوجد تلك الحقيقة التي تفقد الجسم معنى الحياة . والتعبير بالمضارع يفيد معنى الاستمرار الذي يرى ويحس كل يوم ، فالمعنى أن ربي وخالقي هو الذي يحيي الناس كل يوم كما ترى ويميت منهم كل يوم من ترى .

                                                          هذا كلام إبراهيم وهو يحوي حجة قوية واضحة من شأنها أن تثير في النفس نزوع الاتجاه إلى الحق ، لأنها تشير مع ذلك إلى حقيقة الحياة وهي أنها إلى فناء ، فلا يصح أن يغر الشخص بها الغرور ولا يذهب به الطغيان إلى إنكار ربوبية الخالق .

                                                          قال أنا أحيي وأميت هذا جواب الملك الذي سيطر الهوى عليه فأضله وسيطر الطاغوت على نفسه فحمل شعبه على الإذعان لطغيانه وضلاله ، ومنعهم من أن يصل النور إلى قلوبهم وحاجز بينهم وبين كل دعوة إلى الحق والنور ، وبذلك كان ممن يدعون إلى الظلمات كما ذكر في الآية السابقة والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات

                                                          [ ص: 958 ] أجاب ذلك الملك بنقض الاختصاص الذي ذكره خليل الله لرب العالمين ، وهو أنه وحده الذي يحيي ويميت ، فقال ذلك الضال : أنا أحيي وأميت أيضا ، ومرمى قوله أنه إذا كان ربك يا إبراهيم يحيي ويميت واستحق الربوبية لذلك ، فأنا أيضا أحيي وأميت فأستحق هذه الربوبية ، ويقصد بالإحياء كما يقول العلماء العفو عمن حكم عليه بالإعدام وبالإماتة وقتل من شاء قتله هذا ما قاله العلماء . ولو أن لي أن أقول كلاما آخر لقلت إن ذلك الطاغوت يقصد بالإحياء الاستيلاد والاستنبات ونحو ذلك مما يفعله الإنسان ويتخذه سببا عاديا من أسباب ظهور الحي بحياته ، وبالإماته القضاء على الحي بالقتل أو القطع أو الاستئصال ونحو ذلك مما يجوز أن تسند فيه أسباب الحياة إلى الإنسان وأسباب الإماتة إليه ، وهذا بلا شك غير ما قصده الخليل عليه السلام ، لأن ما قصده هو خلق الحياة وخلق الموت ، وذلك ما لا يستطيعه إلا رب العالمين تعالى الله علوا كبيرا . وكان الخليل يستطيع أن يبين له تلك الحقيقة ويحرر موضع القول ولكن ذلك قد يجر إلى مراء فاختار طريقا آخر أجدى وأردع وأقوى وأشد إفحاما ، قال له ما حكاه رب العالمين في قوله :

                                                          قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب لقد ادعى الطاغية أنه شريك الله سبحانه وتعالى ، والشركة تقتضي المساواة في القدرة والسلطان والخلق والتكوين ولا تبدو تلك المساواة إلا إذا كان أحد المتساويين عنده قدرة على مقاومة إرادة الآخر وبسط سلطانه حيث بسط هو سلطانه ، والله سبحانه يأتي بالشمس من المشرق ، أي الجهة التي تشرق منها فعلى المدعي أن يعاند هذا النظام المسيطر الذي يدعي ربوبيته عليه ، بأن يأتي بالشمس من جهة الغروب ، ويعكس الفلك الدوار .

                                                          والفاء في قوله تعالى : فإن الله يأتي هي فاء الإفصاح التي تفصح عن شرط مقدر وتقدير القول : إذا كنت تدعي الألوهية أو الربوبية فأظهر أمارات قدرتك وسلطانك على الكون بأن تأتي بالشمس من جهة غروبها الآن بدل أن تخرج من جهة شروقها ، والمعنى أن ذلك الكون قد خلق على نظام محكم وأحكم تنسيقه بنظم [ ص: 959 ] قدرها منشئه وأمارة قدرتك أن تغير هذه النظم فافعل إن كنت قديرا ، فليست القدرة في أن تدعي إنشاء نظام وجد قبل أن توجد أنت وأشباهك من الطغاة ، إنما القدرة تكون في تغييره فافعل هذا التغيير وما كان ذلك في قدرته لأنه ضال مضل ; ولذا حكى الله سبحانه وتعالى حاله في قوله : فبهت الذي كفر أي تحير واضطرب ولم يجد جوابا ولم يستطع أن يتكلم قليلا أو كثيرا . وقد عبر عنه بقوله : الذي كفر للإشارة إلى أن سبب الحيرة هو كفره ، إذ لو كان طالب هداية لكانت الحجة القاطعة الملزمة هادية بدل أن تكون محيرة ولكنه صمم على الكفر وأصر عليه ، فكانت نفسه حائرة بين حق ظهرت بيناته وباطل قد عض عليه بالنواجذ ، وكذلك شأن كل من أضله الله على علم .

                                                          والله لا يهدي القوم الظالمين ختم الله سبحانه وتعالى الآية بهذه الجملة السامية وهي تدل على ثلاثة أمور :

                                                          أولها : إن الذين يعاندون الحق ظالمون دائما : يظلمون أنفسهم لأنهم يسدون منافذ النور فلا يصل إلى قلوبهم ، ويظلمون أقوامهم لأنهم يحملونهم على الضلال ، ويظلمون الحق لأنهم يحاربونه .

                                                          ثانيها : إن ظلمهم يسبق كامل ضلالهم ; ذلك لأن الشهوات تتحكم فيهم فتدفعهم إلى طلب ما ليس لهم ثم يستهويهم الشيطان بالطمع بعد المطمع ، فيتجاوزون الحدود ويطغون ثم يكون الضلال الكامل الذي تطمس فيه البصيرة فتغلف القلوب عن الحق وتقسو فلا تلين .

                                                          ثالثها : إن الظلم إذا استحكم في النفس أصبحت كل البراهين لا تجدي بل تزيده عنادا وإصرارا ; ولذلك لم يكتب الله الهداية لمن استمرأ الظلم آحادا أو جماعات والله ولي المتقين .

                                                          ولقد كان احتجاج إبراهيم عليه السلام على الطاغية الذي يدعي الربوبية بأن الله هو الذي يحيي ويميت ، فتجاهل الطاغية معنى الحياة والموت ، وحرف الكلم عن مواضعه فلوى خليل الله عنقه حتى أراه عجزه وقدرة الله على نحو ما ذكر سبحانه : فبهت الذي كفر

                                                          [ ص: 960 ] إن الأمر الذي يحير العقول التي لا تربط بين بدء الحياة وانتهائها هو أمر الحياة بعد الموت ، وقد ذكر سبحانه ما يزيل أسباب الحيرة أولا بأن الله سبحانه هو الذي يحيي ويميت ، وأن ذلك من أوصاف الربوبية التي اختصت بها الذات العلية ، وأزال الريب ثانيا ببيان ما كان منه سبحانه للذين أرادوا أن يروا بالحس الحياة بعد الموت والإعادة بعد الفناء فذكر سبحانه وتعالى قصتين تكشفان عن القدرة الإلهية في الإعادة والإبقاء كما هي قادرة على الإنشاء الأول : قصة القرية التي خوت على عروشها وتعجب من رآها من إعادتها وسأل متعجبا أنى يحيي هذه الله بعد موتها والثانية : قصة إبراهيم عليه السلام وقد سأل ربه أن يريه كيف يحيي الموتى .

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية