الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال ) : وبلغنا عن إبراهيم أنه كان يقول : إذا أنكح الوالد الصغير أو الصغيرة فذلك جائز عليهما ، وكذلك سائر الأولياء وبه أخذ علماؤنا - رحمهم الله تعالى - فقالوا : يجوز لغير الأب والجد من الأولياء تزويج الصغير والصغيرة وعلى قول مالك رحمه الله تعالى ليس لأحد سوى الأب تزويج الصغير والصغيرة ، وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى ليس لغير الأب والجد تزويج الصغير والصغيرة فمالك يقول : القياس أن لا يجوز تزويجهما إلا أنا تركنا ذلك في حق الأب للآثار المروية فيه فبقي ما سواه على [ ص: 214 ] أصل القياس والشافعي رحمه الله تعالى استدل بقوله صلى الله عليه وسلم { لا تنكح اليتيمة حتى تستأمر } واليتيمة الصغيرة التي لا أب لها قال صلى الله عليه وسلم { لا يتم بعد الحلم } ، فقد نفى في هذا الحديث نكاح اليتيمة حتى تبلغ فتستأمر ، وفي الحديث أن { قدامة بن مظعون زوج ابنة أخيه عثمان بن مظعون من ابن عمر رضي الله تعالى عنه فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : إنها يتيمة وإنها لا تنكح حتى تستأمر } ، وهو المعنى في المسألة فنقول هذه يتيمة فلا يجوز تزويجها بغير رضاها كالبالغة وتأثير هذا الوصف أن مزوج اليتيمة قاصر الشفقة عليها ولقصور الشفقة لا تثبت ولايته في المال وحاجتها إلى التصرف في المال في الصغر أكثر من حاجتها إلى التصرف في النفس فإذا لم يثبت للولي ولاية التصرف في مالها مع الحاجة إلى ذلك فلأن لا يثبت له ولاية التصرف في نفسها كان أولى .

وحجتنا قوله تعالى { وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى } الآية معناه في نكاح اليتامى ، وإنما يتحقق هذا الكلام إذا كان يجوز نكاح اليتيمة ، وقد نقل عن عائشة رضي الله عنها في تأويل الآية أنها نزلت في يتيمة تكون في حجر وليها يرغب في مالها وجمالها ، ولا يقسط في صداقها فنهوا عن نكاحهن حتى يبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق ، وقالت في تأويل قوله تعالى { في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن } أنها نزلت في يتيمة تكون في حجر وليها ، ولا يرغب في نكاحها لدمامتها ، ولا يزوجها من غيره كي لا يشاركه في مالها فأنزل الله تعالى هذه الآية فأمر الأولياء بتزوج اليتامى أو بتزويجهن من غيرهم فذلك دليل على جواز تزويج اليتيمة { . وزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بنت عمه حمزة رضي الله عنه من عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه وهي صغيرة } والآثار في جواز ذلك مشهورة عن عمر وعلي وعبد الله بن مسعود وابن عمر وأبي هريرة رضوان الله عليهم والمعنى فيه أنه وليها بعد البلوغ فيكون وليا لها في حال الصغر كالأب والجد ، وهذا لأن تأثير البلوغ في زوال الولاية فإذا جعل هو وليا بعد بلوغها بهذا السبب عرفنا أنه وليها في حال الصغر وبه فارق المال ; لأنه لا يستفيد الولاية بهذا السبب في المال بحال ، وكان المعنى فيه أن المال تجري فيه الجنايات الخفية ، وهذا الولي قاصر الشفقة فربما يحمله ذلك على ترك النظر لها ، فأما الجناية في النفس من حيث التقصير في المهر والكفاءة ، وذلك ظاهر يوقف عليه إن فعله يرد عليه تصرفه ، ولأنه لا حاجة إلى إثبات الولاية لهؤلاء في المال فإن الوصي يتصرف في المال والأب متمكن من نصب [ ص: 215 ] الوصي وباعتباره تنعدم حاجتها . فأما التصرف في النفس لا يحتمل الإيصاء إلى الغير فلهذا يثبت للأولياء بطريق القيام مقام الآباء ، والمراد بالحديث اليتيمة البالغة قال الله تعالى { وآتوا اليتامى أموالهم } والمراد البالغين ، والدليل عليه أنه مده إلى غاية الاستئمار ، وإنما تستأمر البالغة دون الصغيرة وتأويل حديث قدامة رضي الله عنه { أنها بلغت فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختارت نفسها } .

ألا ترى أنه روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : والله لقد انتزعت مني بعد أن ملكتها فإذا ثبت جواز تزويج الأولياء الصغير والصغيرة فلهما الخيار إذا أدركا في قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى - وهو قول ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما وبه كان يقول أبو يوسف رحمه الله تعالى ، ثم رجع ، وقال : لا خيار لهما ، وهو قول عروة بن الزبير رضي الله عنهما قال : لأن هذا عقد عقد بولاية مستحقة بالقرابة فلا يثبت فيه خيار البلوغ كعقد الأب والجد ، وهذا لأن القرابة سبب كامل لاستحقاق الولاية ، والقريب بالتصرف ينظر للمولى عليه لا لنفسه ، وهو قائم مقام الأب في التصرف في النفس كالوصي في التصرف في المال فكما أن عقد الوصي يلزم ويكون كعقد الأب فيما قام فعله مقامه ، فكذلك عقد الولي وجه قولهما أنه زوجها من هو قاصر الشفقة عليها فإذا ملكت أمر نفسها كان لها الخيار كالأمة إذا زوجها مولاها ، ثم أعتقها ، وهذا لأن أصل الشفقة موجود للولي ، ولكنه ناقص يظهر ذلك عند المقابلة بشفقة الآباء ، وقد ظهر تأثير هذا النقصان حكما حين امتنع ثبوت الولاية في المال للأولياء فلاعتبار وجود أصل الشفقة نفذنا العقد ولاعتبار نقصان الشفقة أثبتنا الخيار لأن ثبوت الولاية لكي لا يفوت الكفء الذي خطبها فيكون بمعنى النظر لها ، وإنما يتم النظر بإثبات الخيار حتى ينظر لنفسه بعد البلوغ بخلاف الأب فإنه وافر الشفقة تام الولاية فلا حاجة إلى إثبات الخيار في عقده ، وكذلك في عقد الجد ; لأنه بمنزلة الأب حتى تثبت ولايته في المال والنفس .

وأما القاضي إذا كان هو الذي زوج اليتيمة ففي ظاهر الرواية يثبت لها الخيار ; لأنه قال : ولهما الخيار في نكاح غير الأب والجد إذا أدركا . وروى خالد بن صبيح المروزي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه لا يثبت الخيار وجه تلك الرواية أن للقاضي ولاية تامة تثبت في المال والنفس جميعا فتكون ولايته في القوة كولاية الأب . ووجه ظاهر الرواية أن ولاية القاضي متأخرة عن ولاية العم والأخ فإذا ثبت الخيار في تزويج الأخ والعم ففي تزويج القاضي أولى ، وهذا ; لأن شفقة القاضي إنما تكون لحق الدين والشفقة لحق الدين [ ص: 216 ] لا تكون إلا من المتقين بعد التكلف فيحتاج إلى إثبات الخيار لهما إذا أدركا ، فأما الأم إذا زوجت الصغير والصغيرة جاز عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ، وفي إثبات الخيار لها إذا أدركا عنه روايتان في إحدى الروايتين لا يثبت ; لأن شفقتها وافرة كشفقة الأب أو أكثر ، والأصح أنه يثبت الخيار ; لأن بها قصور الرأي مع وفور الشفقة ولهذا لا تثبت ولايتها في المال وتمام النظر بوفور الرأي والشفقة فلتمكن النقصان في رأيها أثبتنا لهما الخيار إذا أدركا ، فإن اختارا الفرقة عند الإدراك لم تقع الفرقة إلا بحكم الحاكم ; لأن السبب مختلف فيه من العلماء من رأى ومنهم من أبى ، وهو غير متيقن به أيضا فإن السبب قصور الشفقة ، ولا يوقف على حقيقته فكان ضعيفا في نفسه فلهذا توقف على قضاء القاضي ، وهذا بخلاف خيار الطلاق فإن المخيرة إذا اختارت نفسها وقعت الفرقة من غير قضاء القاضي ; لأن السبب هناك قوي في نفسه ، وهو كونها نائبة عن الزوج في إيقاع الطلاق أو مالكة أمر نفسها بتمليك الزوج ، وهذا بخلاف خيار العتق فإن المعتقة إذا اختارت نفسها وقعت الفرقة من غير قضاء القاضي ; لأن السبب هناك قوي ، وهو زيادة ملك الزوج عليها فإن قبل العتق كان يملك مراجعتها من قرأين ويملك عليها تطليقتين وعدتها حيضتان ، وقد زاد ذلك بالعتق فكان لها أن تدفع الزيادة ، ولا تتوصل إلى دفع الزيادة إلا بدفع أصل الملك فكما أن دفع أصل الملك عند انعدام رضاها يتم بها ، فكذلك دفع زيادة الملك ، فأما هنا بالبلوغ لا يزداد الملك ، وإنما كان ثبوت الخيار لتوهم ترك النظر من المولى ، وذلك غير متيقن به فلهذا لا تتم الفرقة إلا بالقضاء .

التالي السابق


الخدمات العلمية