الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                      صفحة جزء
                                                                      1026 حدثنا القعنبي عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا شك أحدكم في صلاته فلا يدري كم صلى ثلاثا أو أربعا فليصل ركعة وليسجد سجدتين وهو جالس قبل التسليم فإن كانت الركعة التي صلى خامسة شفعها بهاتين وإن كانت رابعة فالسجدتان ترغيم للشيطان حدثنا قتيبة حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن القاري عن زيد بن أسلم بإسناد مالك قال إن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا شك أحدكم في صلاته فإن استيقن أن قد صلى ثلاثا فليقم فليتم ركعة بسجودها ثم يجلس فيتشهد فإذا فرغ فلم يبق إلا أن يسلم فليسجد سجدتين وهو جالس ثم ليسلم ثم ذكر معنى مالك قال أبو داود وكذلك رواه ابن وهب عن مالك وحفص بن ميسرة وداود بن قيس وهشام بن سعد إلا أن هشاما بلغ به أبا سعيد الخدري [ ص: 247 ]

                                                                      التالي السابق


                                                                      [ ص: 247 ] ( وليسجد سجدتين وهو جالس قبل التسليم ) هو من أدلة القائلين بأن السجود للسهو قبل السلام ( شفعها بهاتين ) يعني أن السجدتين بمنزلة الركعة لأنهما ركناها فكأنه بفعلهما قد فعل ركعة سادسة فصارت شفعا ، فالسجدتان ترغيم للشيطان لأنه لما قصد التلبيس على المصلي وإبطال صلاته كانت السجدتان لما فيهما من الثواب ترغيما له . وظاهر الحديث أن مجرد حصول الشك موجب للسهو ولو زال وحصلت معرفة الصواب . قاله الشوكاني وقال الزرقاني : قوله شفعها بهاتين السجدتين أي ردها إلى الشفع . قال الباجي : يحتمل أن الصلاة مبنية على الشفع فإن دخل عليه ما يوترها من زيادة وجب إصلاح ذلك بما يشفعها ( وإن كانت رابعة فالسجدتان ترغيم ) أي إغاظة وإذلال ( للشيطان ) قال النووي : هو مأخوذ من الرغام وهو التراب ومنه أرغم الله أنفه والمعنى أن الشيطان لبس عليه صلاته وتعرض لإفسادها ونقضها ، فجعل الله تعالى للمصلي طريقا إلى جبر صلاته وتدارك ما لبسه عليه وإرغام الشيطان ورده خاسئا مبعدا عن مراده وكملت صلاة ابن آدم وامتثل أمر الله تعالى الذي عصى به إبليس من امتناعه من السجود . انتهى .

                                                                      قال الإمام الخطابي رحمه الله تعالى : قد روى أبو داود في أبواب السهو عدة أحاديث في أكثر أسانيدها مقال والصحيح منها والمعتمد عند أهل العلم هذه الأحاديث الخمسة التي ذكرناها وهي حديث عبد الله بن مسعود من طريق منصور ، وحديث أبي سعيد الخدري ، وحديث عطاء مرسلا ، وحديث أبي هريرة من طريق الزهري عن أبي سلمة ، وحديث عبد الله ابن بحينة . فأما حديث أبي هريرة مجمل ليس فيه بيان ما يصنعه من شيء سوى ذلك ولا فيه بيان موضع السجدتين من الصلاة وحاصل الأمر على حديث ابن مسعود . فأما حديث ابن مسعود وهو أنه يتحرى في صلاته ويسجد سجدتين بعد السلام فهو مذهب أصحاب الرأي . ومعنى التحري عندهم غالب الظن وأكبر الرأي كأنه شك في الرابعة من الظهر هل صلاها أم لا ، فإن كان أكثر رأيه أنه لم يصلها أضاف إليها أخرى ويسجد سجدتين بعد السلام ، وإن كان أكبر رأيه في الرابعة أنه صلاها أتمها ولم [ ص: 248 ] يضف إليها ركعة وسجد سجدتي السهو بعد السلام هذا إذا كان الشك يعتريه في الصلاة مرة بعد أخرى ، فإن كان ذلك أول ما سها فعليه أن يستأنف الصلاة عندهم .

                                                                      وأما حديث ابن بحينة وذي اليدين فإن مالكا اعتبرهما جميعا وبنى مذهبه عليهما في الوهم إذا وقع في الصلاة ، فإن كان من زيادة زادها في صلب الصلاة سجد سجدتين بعد السلام لأن في خبر ذي اليدين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سلم عن ثنتين وهو زيادة في الصلاة ، وإن كان من نقصان سجدهما قبل السلام لأن في حديث ابن بحينة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام عن ثنتين ولم يتشهد وهذا نقصان في الصلاة . وذهب أحمد بن حنبل إلى أن كل حديث منها تتأمل صفته ويستعمل في موضعه ولا يحمل على الخلاف ، وكان يقول ترك الشك على وجهين أحدهما إلى اليقين ، والآخر إلى التحري . فمن رجع إلى اليقين فهو أن يلقي الشك ويسجد سجدتي السهو قبل السلام على حديث أبي سعيد الخدري ، وإذا رجع إلى التحري وهو أكثر لتوهم سجد سجدتي السهو بعد السلام على حديث ابن مسعود .

                                                                      فأما مذهب الشافعي فعلى الجمع بين الأخبار ورد المجمل منها على المفسر والتفسير إنما جاء في حديث أبي سعيد الخدري وهو قوله عليه السلام فليلق الشك وليبن على اليقين وقوله إذا لم يدر أثلاثا صلى أم أربعا فليصل ركعة وليسجد سجدتين وهو جالس قبل السلام وقوله عليه السلام فإن كانت الركعة التي صلاها خامسة شفعها بهاتين وإن كانت رابعة فالسجدتان ترغيم الشيطان قال وهذا فصول في الزيادات حفظها أبو سعيد الخدري لم يحفظها غيره من الصحابة ، وقبول الزيادات واجب فكان المصير إلى حديثه أولى .

                                                                      ومعنى التحري المذكور في حديث ابن مسعود عند الشافعي هو البناء على اليقين على ما جاء تفسيره في حديث أبي سعيد الخدري . وحقيقة التحري هو طلب إحدى الأمرين ، وأولاهما بالصواب وأحراهما ما جاء في حديث أبي سعيد الخدري من البناء على اليقين لما فيه من كمال الصلاة والاحتياط لها . ومما يدل على أن التحري قد يكون بمعنى اليقين قوله تعالى فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا وأما حديث ذي اليدين وسجوده فيها بعد التسليم فإن ذلك محمول على السهو في مذهبهم لأن تلك الصلاة قد نسبت إلى السهو في مذهبهم فجرى حكم أحدهما على مشاكلة حكم ما تقدم منها ، وقد زعم بعضهم أنه منسوخ بخبر أبي سعيد الخدري ، وقد روي عن الزهري أنه قال : كل فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن تقديم السجود قبل السلام أحرى الأمرين .

                                                                      وقد ضعف حديث أبي سعيد قوم زعموا أن مالكا أرسله عن عطاء بن يسار ولم [ ص: 249 ] يذكر فيه أبا سعيد الخدري . قال الشيخ : وهذا مما لا يقدح في صحته ومعلوم عن مالك أنه يرسل الأحاديث وهي عنده مسندة وذلك معروف من عادته ، وقد رواه أبو داود من طريق ابن عجلان عن زيد بن أسلم وذكر أن هشام بن سعيد أسنده فبلغ به أبا سعيد الخدري : قال الشيخ : وقد أسنده أيضا سليمان بن بلال حدثناه حمزة بن الحارث ، ومحمد بن أحمد بن زيرك قالا : حدثنا عباس الدوري قال أخبرنا موسى بن داود قال أخبرنا سليمان بن بلال عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثا أم أربعا فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم ليسجد سجدتين وهو جالس قبل أن يسلم ، فإن كان صلى خمسا كانتا شفعا وإن كان صلى تمام الأربع كانتا ترغيما للشيطان .

                                                                      قال الشيخ : ورواه ابن عباس كذلك أيضا حدثونا به عن محمد بن إسماعيل الصائغ قال أخبرنا ابن قعنب قال أخبرنا عبد العزيز بن محمد بن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر أثلاثا صلى أم أربعا فليقم فليصل ركعة ثم ليسجد سجدتين وهو جالس قبل السلام ، فإن كانت الركعة التي صلى خامسة شفعها بهاتين وإن كانت رابعة فالسجدتان ترغيم للشيطان .

                                                                      قال الشيخ : وفي هذا الحديث بيان فساد قول من ذهب فيمن صلى خمسا إلى أنه يضيف إليها سادسة إن كان قد فعل ، واعتلوا بأن النافلة لا تكون ركعة ، وقد نص فيه من طريق ابن عجلان على أن تلك الركعة الرابعة تكون نافلة ثم لم يأمره بإضافة أخرى إليها . انتهى كلامه بحروفه .

                                                                      ( عبد الرحمن القاري ) أي منسوب إلى بني قارة .

                                                                      قال المنذري : وهذا أيضا مرسل ( كذلك ) أي كما روى القعنبي مرسلا ( رواه ابن وهب عن مالك ) بن أنس [ ص: 250 ] مرسلا ( و ) : كذا روى ( حفص بن ميسرة وداود بن قيس وهشام بن سعد ) كلهم من أقران مالك عن زيد بن أسلم مرسلا إلا أن هاشما أي ابن سعد ( بلغ به أبا سعيد الخدري ) فهشام من بين أقران مالك جعله متصلا بذكر أبي سعيد الخدري ، ورواية ابن وهب عن مالك وعن حفص بن ميسرة وداود بن قيس وهشام بن سعد أخرجها البيهقي في المعرفة .

                                                                      وقال الزرقاني في شرح الموطأ هكذا مرسلا عند جميع الرواة ، وتابع مالكا على إرساله الثوري وحفص بن ميسرة ومحمد بن جعفر وداود بن قيس في رواية ووصله الوليد بن مسلم ويحيى بن راشد المازني كلاهما عن مالك عن زيد عن عطاء عن أبي سعيد الخدري .

                                                                      وقد وصله مسلم من طريق سليمان بن بلال وداود بن قيس كلاهما عن زيد بن أسلم عن عطاء عن أبي سعيد ، وله طرق عند النسائي وابن ماجه عن زيد موصولا ولذا قال أبو عمر بن عبد البر هذا الحديث ، وإن كان الصحيح فيه عن مالك الإرسال فإنه متصل من وجوه ثابتة من حديث من تقبل زيادته لأنهم حفاظ فلا يضره تقصير من قصر في وصله .

                                                                      وقد قال الأثرم لأحمد بن حنبل أتذهب إلى حديث أبي سعيد ، قال نعم ، قلت إنهم يختلفون في إسناده ، قال إنما قصر به مالك وقد أسنده عدة منهم ابن عجلان وعبد العزيز بن أبي سلمة . انتهى . قال ابن عبد البر : وفي حديث أبي سعيد دلالة قوية لقول مالك والشافعي والثوري وغيرهم إن الشاك يبني على اليقين ولا يجزيه التحري . وقال أبو حنيفة إن كان ذلك أول ما شك استقبل وإن اعتراه غير مرة تحرى . وليس في شيء من الأحاديث فرق بين اعتراه ذلك أول مرة أو مرة بعد مرة . وقال أحمد : الشك على وجهين : اليقين والتحري فمن رجع إلى اليقين ألغى الشك وسجد قبل السلام على حديث أبي سعيد ، وإذا رجع إلى التحري وهو أكثر الوهم سجد للسهو بعد السلام على حديث ابن مسعود الذي يرويه منصور وهو حديث معلول . وقال جماعة التحري هو الرجوع إلى اليقين .

                                                                      وعلى هذا يصح استعمال الخبرين بمعنى واحد ، وأي تحر يكون لمن انصرف وهو شاك غير متيقن ومعلوم أن من تحرى على أغلب ظنه أن شعبة من الشك تصحبه . انتهى .

                                                                      وتقدم بيان ذلك من كلام الخطابي رحمه الله .




                                                                      الخدمات العلمية