الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 198 ] ( خلاصة الخلاصة لهذا الفصل )

                          إننا نؤمن بأن الله تعالى هو خالق كل شيء بقدرته وإرادته ، واختياره ، وحكمته وأنه ( أحسن كل شيء خلقه ) ( 32 : 7 ) كما قال في سورة ( آلم ) السجدة ، فهو : ( صنع الله الذي أتقن كل شيء ) ( 27 : 88 ) كما قال في سورة النمل ، وأنه ليس في خلقه تفاوت ولا فطور كما قال في سورة الملك ، الآية ( 3 ) وأنه خلقه بنظام وتقدير لا جزافا ولا أنفا كما قال في سورة القمر : ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) ( 54 : 49 ) وقال في سورة الفرقان : ( وخلق كل شيء فقدره تقديرا ) ( 25 : 2 ) وقال في سورة الحجر : ( وأنبتنا فيها من كل شيء موزون ) ( 15 : 19 ) ( وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم ) ( 15 : 21 ) .

                          وأن له تعالى في نظام التكوين والإبداع ، وفيما هدى إليه البشر من نظام الاجتماع سننا مطردة تتصل فيها الأسباب بالمسببات ، ولا تتبدل ولا تتحول محاباة لأحد من الناس ، وأنها عامة في عالم الأجسام وعالم الأرواح ، وقد ورد ذكر هذه السنن باللفظ في عدة سور .

                          ونؤمن بأن له تعالى في خلقه آيات بينات ، وأن له في آياته حكما جلية أو خفية ، وأن ما منحنا إياه من العقل والشرع يأبيان علينا أن نثبت وقوع شيء في الخلق على خلاف ما تقدم بيانه من نظام التقدير وسنن التدبير ، إلا ببرهان قطعي يشترك العقل والحس في إثباته وتمحيصه وأنه لا بد أن يكون وقوعه لحكمة بالغة لا عن خلل ولا عبث ، وأن ما خفي علينا من حكمه كسائر ما يخفى علينا من أمور خلقه ، نبحث عنها لنزاد علما بكماله ونكمل به أنفسنا بقدر استطاعتنا ولا نتخذها حجة ولا عذرا على الكفر به لجهلنا ، وقد ثبت لأعلم العلماء منا أن ما نجهل من هذا الكون أكثر مما نعلم ، ويستحيل أن يحيط البشر به علما .

                          ونؤمن بأن الله تعالى قد منحنا رسلا هدونا بآياته إلى الخروج من مضيق مدارك الحس ، وما يستنبطه الفكر منها بادي الرأي ، إلى ما وراءها من سعة عالم الغيب ، ولولا هدايتهم لظل البشر ألوف الألوف من السنين ينكرون وجود ما لم يكونوا يدركونه بحواسهم من الأجسام وأعراضها ، وبقياسهم ما جهلوا على ما علموا منها .

                          وقد علمنا من التاريخ أن الإيمان بالله وبآياته لرسله ، وباليوم الآخر وبما يكون فيه من الحساب والجزاء على الأعمال هو الذي وجه عقول البشر إلى البحث في أسرار الوجود حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه من الارتقاء في العلوم والفنون والصناعات في الأجيال المختلفة ، ولم [ ص: 199 ] يكن لغير المؤمنين بالغيب نصيب في ذلك - فهذا الإيمان بالأركان الثلاثة من الغيب هو الذي أوصل البشر إلى علوم وأعمال كان يعدها غير المؤمنين بالغيب من محالات العقول كالغيب الذي أنكروه ، حتى لم يعد شيء من أخبار الغيب بعيدا عن العقل بعد ثبوتها .

                          فتبين لنا بهذا وبما قبله أنه كان للبشر بآيات الأنبياء ثلاث فوائد ، هي من حكم نصبه تعالى لتلك الآيات : ( الأولى ) جعلها دليلا حسيا على اختياره تعالى في جميع أفعاله ، وكون سنن النظام في الخلق خاضعة له لا حاكمة عليه ولا مقيدة لإرادته وقدرته . ( الثانية ) جعلها دليلا على صدق رسله فيما يخبرون عنه بوحيه ونذرا للمعاندين لهم من الكفار ، ولو كانت مما يقدر عليه البشر بكسبهم أو تقع منهم باستعداد روحي لما كانت آية على صدقهم ( الثالثة ) هداية عقول البشر برؤيتها إلى سعة دائرة الممكنات وضيق نطاق المحال في المعقولات ، وإلى أن كون الشيء بعيدا عن الأسباب المعتادة والأمور المعهودة والسنن المعروفة - لا يقتضي أن يكون محالا يجزم بعدم وقوعه ، وبكذب المخبر به ، مع قيام الدليل على صدقه ، وإنما غايته أن يكون الأصل فيه عدم الثبوت فيتوقف ثبوته على الدليل الصحيح ، وهذه قاعدة كبار علماء الكون في هذا العصر ، فلا ينقصهم لتكميل علمهم إلا ثبوت آية لله تعالى لا يمكن أن يكون لها علة من سنن الكون .

                          ولكن الأمر قد انقلب إلى ضده ، فإن كثيرا من الذين وصلوا إلى هذه العلوم والأعمال المقربة لآيات الرسل وما دعوا إليه من الإيمان بالغيب من العقول ، قد صارت هذه العلوم نفسها سببا لإنكارهم ما كان سببا لهم وموصلا إليها ( وهو الآيات والإيمان بالغيب ) - لا إنكار إمكانه بل إنكار ثبوته بالفعل ، فهم ينكرون أن يكون الخالق قد فعل ما صاروا يفعلون بإقداره وتوفيقه نظيرا له في الغرابة ، وكان ينبغي لهم أن يجعلوه دليلا عليه مبينا لحقيقته ، كما قال تعالى ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) ( 41 : 53 ) ولكنهم كلما أراهم آية من آياته الروحية في أنفسهم ، أو من آياته الكونية في الآفاق ، التمسوا لها سنة بقياس ما لم يعرفوا على ما عرفوا ، فأخرجوها عن كونها بمحض قدرته وإبداعه ، وظلوا على لبسهم ، كالذين طلبوا أن ينزل عليهم ملكا رسولا فقال فيهم : ( ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ) ( 6 : 9 ) أي لما كانوا لا يمكن لهم أن يدركوا الملك ويتلقوا عنه إلا إذا كان بصورة رجل مثلهم ، وهو ما استنكروه من كون الرسل بشرا مثلهم ، ولو جعل الله الملك رجلا مثلهم لالتبس عليهم أمره بما يلبسونه على أنفسهم من استنكار كون الرسل بشرا مثلهم ، وهكذا يفعلون الآن : ظهرت لهم في عصرنا عدة آيات روحية من المكاشفات والتأثير في المادة فشبهوها بما عرفوا من نقل الكلام بالسيال الكهربائي وغير ذلك ، حتى لا يعترفوا بآية إبداعية من الخالق لا تخضع لعلمهم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية