الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قلت: فقد تداخلت المقالتان في كلامه، كما تداخل في كلام الآخر، وذلك أن من قال: الأجسام أو الهيولى التي هي محل الجسمية واجبة لذاتها وصفاتها ممكنة، فهو من جنس من قال بخمسة أشياء واجبة؛ إذ كلاهما يقول: إن الباري أحدث التأليف والصنعة، بخلاف من قال بإلهين: الخير والشر: فإنه يقول: كلاهما فاعل، وليس في هذه الأقوال قول من يجعل وجوب الوجود لعدة أشياء، وجعل ما سواها مفعولا لها، كما يقوله القائلون بالأصلين: النور والظلمة من المجوس.

لكن القائلون بقدم النفس يقولون: إنها أحبت الهيولى، ولم يمكن تخليصها منها إلا بإحداث العالم. والقائلون بقدم المادة فقط لا يقولون بذلك. والقائلون بقدم الهيولى أو بعض الأجسام أو نحو ذلك، لا يلزمهم أن يقولوا: إنها واجبة الوجود بنفسها، بل قد يقولون: إنها مبدعة مفعولة للواجب بنفسه. وهذا المشهور عن قدماء الفلاسفة.

والرازي قد ذكر في «شرح الإشارات» من كتبه: أن هؤلاء يقولون: إن الباري هو الواجب بذاته، وأن النفس وغيرها معلولة له. وذكر هنا [ ص: 261 ] عنهم: أنهم يصفون الجميع بوجوب الوجود، وهذا تناقض في نقل أقوالهم. ثم إبطال هذه الأقوال بناء على توحيدهم، الذي مضمونه نفي الصفات، لكون الواجب لا يكون إلا واحدا، قد عرف فساده.

قال الرازي: فأما القائلون بأن واجب الوجود واحد، فقد اختلفوا على قولين: منهم من قال: إنه تعالى لم يكن في الأزل فاعلا، ثم صار فيما لا يزال فاعلا، وهم المليون بأسرهم. ومنهم من قال: إنه كان في الأزل فاعلا، وهم أكثر الفلاسفة.

قلت: القول الذي حكاه عن المليين بأسرهم هو قول طوائف من أهل الكلام المحدث منهم، الذين ذمهم السلف والأئمة، ولا يعرف هذا القول عن نبي مرسل، ولا أحد من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين. لم يقل أحد من هؤلاء: إن الله لم يكن فاعلا ثم صار فاعلا، وإنما المعروف عنهم ما جاء به الكتاب والسنة، من أن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه، فكل ما سواه مخلوق حادث بعد أن لم يكن. وهذا هو الذي نطق به الكتاب والسنة، واتفق عليه أهل الملل. وكذلك نقله عن جمهور الفلاسفة: إن الله لم يزل فاعلا، كلام مجمل، فجماهير الفلاسفة لا يقولون بقدم العالم. وأول من ظهر عنه منهم القول بقدمه هو أرسطو. ولا يلزم من قال: إنه لم يزل فاعلا، أن يقول بقدم شيء من العالم؛ إذ يمكنه مع ذلك أن يقول: لم يزل فاعلا لشيء بعد شيء، فكل ما سواه مخلوق محدث، وهو لم يزل فاعلا. [ ص: 262 ]

وقد أخبرت الرسل أن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش، وأن الله كان ولم يكن قبله شيء، وكان حينئذ عرشه على الماء، ثم كتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السماوات والأرض.

وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله، ولا قول أحد من السلف، هذا القول الذي حكاه عن أهل الملل كلهم، بل صرح أئمة الإسلام بأن الله لم يزل متكلما إذا شاء، قادرا على ما يشاء، فاعلا يقوم به الفعل الذي يشاؤه، بل وصرحوا أنه لم يزل فاعلا، وأن الحي لا يكون إلا فعالا، يقوم به الفعل.

ولفظ بعضهم: أن الحي لا يكون إلا متحركا، وعبارة بعضهم: كان محسنا فيما لم يزل، عالما بما لم يزل، إلى ما لم يزل. وعبارة بعضهم: كان غفورا رحيما، عزيزا حكيما، ولم يزل كذلك.

فنقل الرازي لمقالة أهل الملل، كنقل ابن سينا لمقالات الفلاسفة. فكلا الرجلين لم يذكر في هذا المقام أقوال أئمة الفلاسفة المتقدمين الأساطين، ولا أقوال الأنبياء والمرسلين، ومن تبعهم من الصحابة والتابعين، كأئمة المسلمين وعلماء الدين، بل هذه الخمسة الأقوال التي ذكرها هذان وأتباعهما، ليست قول هؤلاء، ولا قول هؤلاء. ولهذا كان جميع ما ذكروه، من الأقوال التي ينصرونها ويزيفونها، أقوالا يظهر فسادها وتناقضها.

التالي السابق


الخدمات العلمية