الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
فصل

في مد التاء وقبضها

وذلك أن هذه الأسماء لما لازمت الفعل ، صار لها اعتباران : أحدهما من حيث [ ص: 40 ] هي أسماء وصفات ، وهذا تقبض منه التاء . والثاني من حيث أن يكون مقتضاها فعلا وأثرا ظاهرا في الوجود ، فهذا تمد فيه ، كما تمد في قالت ( البقرة : 113 ) و حقت ( يونس : 33 ) وجهة الفعل والأمر ملكية ظاهرة ، وجهة الاسم والصفة ملكوتية باطنة .

فمن ذلك الرحمة مدت في سبعة مواضع للعلة المذكورة : بدليل قوله في أحدها : " " إن رحمت الله قريب من المحسنين " " ( الأعراف : 56 ) فوضعها على التذكير ، فهو الفعل .

وكذلك : " " فانظر إلى آثار رحمت الله " " ( الروم : 50 ) والأثر هو الفعل ضرورة .

والثالث : " " أولئك يرجون رحمت الله " " ( البقرة : 218 ) .

والرابع في هود : " " رحمت الله وبركاته " " ( هود : 73 ) .

والخامس : " " ذكر رحمت ربك " " ( مريم : 2 ) .

والسادس : " " أهم يقسمون رحمت ربك " " ( الزخرف : 32 ) .

والسابع : " " ورحمت ربك خير مما يجمعون " " ( الزخرف : 32 ) .

ومنه ( النعمة ) بالهاء إلا في أحد عشر موضعا مدت بها : في البقرة " " واذكروا نعمت الله عليكم " " ( الآية : 231 ) ، في آل عمران ( الآية : 103 ) . والمائدة ( الآية : 11 ) . وفى إبراهيم موضعان ( الآيتان : 28 ، 34 ) ، والنحل ثلاثة مواضع ( الآيات : 72 و 83 و 114 ) وفي لقمان ( الآية : 31 ) . وفاطر ( الآية : 3 ) . والطور ( الآية : 29 ) .

والحكمة فيها ما ذكرنا أن الحاصلة بالفعل في الوجود تمد ، نحو قوله في إبراهيم : " " وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها " " ( الآية : 34 ) بدليل قوله : إن الإنسان لظلوم كفار ( إبراهيم : 34 ) ، فهذه نعمة متصلة بالظلوم الكفار في تنزيلهما . وهذا بخلاف التي في سورة النحل : وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها ( النحل : 18 ) كتبت مقبوضة لأنها بمعنى الاسم بدليل قوله : إن الله لغفور رحيم ( النحل : 18 ) ; فهذه نعمة وصلت من الرب ، فهي ملكوتية ختمها باسمه عز وجل ، وختم الأولى باسم الإنسان .

ومن ذلك ( الكلمة ) مقبوضة إلا في موضع في الأعراف : " " وتمت كلمت ربك الحسنى " " ( الأعراف : 137 ) [ ص: 41 ] هو ما تم لهم في الوجود الأخروي بالفعل الظاهر دليله في الملك ، وهو الاختلاف وتمامها أن لها نهاية تظهر في الوجود بالفعل فمدت التاء .

ومنها ( السنة ) مقبوضة ; إلا في خمسة مواضع حيث تكون بمعنى الإهلاك والانتقام الذي في الوجود : أحدها في الأنفال : " " فقد مضت سنت الأولين " " ( الأنفال : 38 ) ويدل على أنها في الانتقام قوله قبلها : إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ( الآية : 38 ) ، وقوله بعدها : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ( الآية : 39 ) . وفى فاطر : " " فهل ينظرون إلا سنت الأولين فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا " " ( الآية : 43 ) ويدلك على أنها بمعنى الانتقام قوله تعالى قبلها : ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ( الآية : 43 ) وسياق ما بعدها .

وفى المؤمن : فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنت الله ( غافر : 85 ) أما إذا كانت السنة بمعنى الشريعة والطريقة ، فهي ملكوتية بمعنى الاسم تقبض تاؤها ، كما في الأحزاب : سنة الله في الذين خلوا من قبل ( الآيتان : 38 ، 39 ) أي حكم الله وشرعه ، سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ( الإسراء : 77 ) .

ومنه " " بقيت الله " " ( هود : 86 ) فرد ، مدت تاؤه ; لأنه بمعنى ما يبقى في أموالهم من الربح المحسوس ، لأن الخطاب إنما هو فيها من جهة الملك .

ومنه " " فطرت الله " " ( الروم : 30 ) فرد ، وصفها الله بأنها فطر الناس عليها ، فهي فصل خطاب في الوجود كما جاء : كل مولود يولد على الفطرة الحديث .

ومنه : " " قرت عين لي ولك " " ( القصص : 9 ) فرد ، مدت تاؤه لأنه بمعنى الفعل إذ هو [ ص: 42 ] خبر عن موسى ، وهو موجود حاضر في الملك ، وهذا بخلاف : قرة أعين ( الفرقان : 74 ) ، فإنه هنا بمعنى الاسم ، وهو ملكوتي إذ هو غير حاضر .

ومنه " " ومعصيت الرسول " " ( المجادلة : 8 ، 9 ) مدت في موضعين في سورة المجادلة ; لأن معناها الفعل ، والتقدير : ولا تتناجوا بأن تعصوا الرسول ، ونفس هذا النجو الواقع منهم في الوجود هو فعل معصية لوقوع النهي عنه .

ومنه ( اللعنة ) مدت في موضعين : في آية المباهلة ، وفى آية اللعان ، وكونهما بمعنى الفعل ظاهر .

ومنه ( الشجرة ) في موضع " " إن شجرت الزقوم " " ( الدخان : 43 ) ، لأنها بمعنى الفعل اللازم وهو تزقمها بالأكل ; بدليل قوله تعالى : في البطون ( الدخان : 45 ) فهذه صفة فعل كما في الواقعة : لآكلون من شجر من زقوم ( الآية : 52 ) ، وهذا بخلاف قوله : أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم ( الصافات : 62 ) ، فإن هذه وصفها بأنها : فتنة للظالمين ( الصافات : 63 ) ، إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم ( الصافات : 64 ) ، فهو حلية للاسم ; فلذلك قبضت تاؤها .

ومنه ( الجنة ) مدت في موضع واحد في الواقعة : " " وجنت نعيم " " ( الواقعة : 89 ) لكونها بمعنى فعل التنعم بالنعيم ، بدليل اقترانها بالروح والريحان وتأخرها عنهما وهما من الجنة ، فهذه جنة خاصة بالمنعم بها ، وأما من ورثة جنة النعيم ( الشعراء : 85 ) و أن يدخل جنة نعيم ( المعارج : 38 ) ، فإن هذا بمعنى الاسم الكلي .

ولم تمد : تصلية جحيم ( الواقعة : 94 ) لأنها اسم ما يفعل بالمكذب في الآخرة ، أخبرنا الله بذلك فالمؤمن يعلمه تصديقا ، ولا يحذف لفعل أبدا ، والضابط لذلك : أن ما كان بمعنى الاسم لم تمد تاؤه ، مثل : زهرة الحياة الدنيا ( طه : 131 ) و صبغة الله ( البقرة : 138 ) و زلزلة الساعة ( الحج : 1 ) و تحلة أيمانكم ( التحريم : 2 ) و رحلة الشتاء والصيف ( قريش : 2 ) و حمالة الحطب ( المسد : 4 ) .

[ ص: 43 ] ومنه ومريم ابنت عمران ( التحريم : 12 ) مدت التاء تنبيها على معنى الولادة والحدوث من النطفة المهينة ، ولم يضف في القرآن ولد إلى والد ووصف به اسم الولد إلا عيسى وأمه عليهما السلام ، لما اعتقد النصارى فيهما أنهما إلهان ، فنبه سبحانه بإضافتهما الولادية على جهة حدوثهما بعد عدمهما ، حتى أخبر تعالى في موطن بصفة الإضافة دون الموصوف ، وقال : وجعلنا ابن مريم وأمه آية ( المؤمنون : 50 ) لما غلوا في إلاهيته أكثر من أمه كما نبه تعالى على حاجتهما وتغير أحوالهما في الوجود ، يلحقهما ما يلحق البشر قال الله تعالى : كانا يأكلان الطعام ( المائدة : 75 ) .

ومنه ( امرأة ) هي في سبعة مواضع وهى : خمس من النساء : " " امرأت عمران " " ( آل عمران : 35 ) و " " امرأت فرعون " " ( القصص : 9 والتحريم : 11 ) و " " امرأت نوح " " ( التحريم : 10 ) و " " امرأت لوط " " ( التحريم : 10 ) و " " امرأت العزيز " " ( يوسف : 30 و 51 ) كلها ممدودة . تنبيها على فعل التبعل والصحبة وشدة المواصلة والمخالطة والائتلاف في الموجود والمحسوس ، وأربع منهن منفصلات في بواطن أمرهن عن بعولتهن بأعمالهن . وواحدة خاصة واصلت بعلها باطنا وظاهرا ، وهى امرأة عمران ، فجعل الله لها ذرية طيبة ، وأكرمها بذلك وفضلها على العالمين ، وواحدة من الأربع انفصلت بباطنها عن بعلها طاعة لله ، وتوكلا عليه وخوفا منه ، فنجاها وأكرمها ، وهى امرأة فرعون ، واثنتان منهن انفصلتا عن أزواجهما كفرا بالله فأهلكهما الله ودمرهما ، ولم ينتفعا بالوصلة الظاهرة ، مع أنها أقرب وصلة بأفضل أحباب الله . كما لم تضر امرأة فرعون وصلتها الظاهرة بأخبث عبيد الله ، وواحدة انفصلت عن بعلها بالباطن اتباعا للهوى وشهوة نفسها ، فلم تبلغ من ذلك مرادها مع تمكنها من الدنيا واستيلائها على ما مالت إليه بحبها وهو في بيتها وقبضتها ، فلم يغن ذلك عنها شيئا ، وقوتها وعزتها إنما كانا لها من بعلها " العزيز " ولم ينفعها ذلك في الوصول إلى إرادتها مع عظيم كيدها ، كما لم يضر يوسف ما امتحن به منها ، ونجاه الله من السجن ، ومكن له في الأرض ، وذلك بطاعته لربه ، ولا سعادة إلا بطاعة الله ، ولا شقاوة إلا بمعصيته ; فهذه كلها عبر وقعت بالفعل في الوجود ، في شأن كل امرأة منهن فلذلك مدت تاءاتهن .

التالي السابق


الخدمات العلمية