الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        معلومات الكتاب

                                        إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

                                        ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

                                        صفحة جزء
                                        47 - الحديث الرابع : عن أبي المنهال سيار بن سلامة قال { دخلت أنا وأبي على أبي برزة الأسلمي ، فقال له أبي : كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي المكتوبة ؟ فقال : كان يصلي الهجير - التي تدعونها [ ص: 170 ] الأولى - حين تدحض الشمس ، ويصلي العصر ، ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية . ونسيت ما قال في المغرب . وكان يستحب أن يؤخر من العشاء التي تدعونها العتمة . وكان يكره النوم قبلها ، والحديث بعدها . وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه . وكان يقرأ بالستين إلى المائة } .

                                        التالي السابق


                                        " أبو برزة الأسلمي " اختلف في اسمه واسم أبيه . والأشهر الأصح : نضلة بن عبيد أو نضلة بن عبد الله . ويقال : نضلة بن عائذ - بالذال المعجمة - مات سنة أربع وستين . وقيل : مات بعد ولاية ابن زياد ، قبل موت معاوية ، سنة ستين وكانت وفاته بالبصرة . وقد تقدم أن لفظة " كان " تشعر عرفا بالدوام والتكرار ، كما يقال : كان فلان يكرم الضيوف . وكان فلان يقاتل العدو ، إذا كان ذلك دأبه وعادته . والألف واللام في " المكتوبة " للاستغراق . ولهذا أجاب بذكر الصلوات كلها ; لأنه فهم من السائل العموم . وقوله " كان يصلي الهجير " فيه حذف مضاف ، تقديره : كان يصلي صلاة الهجير . وقد قدمنا قبل أن " الهجير والهاجرة " شدة الحر وقوته . وإنما قيل لصلاة الظهر " الأولى " ; لأنها أول صلاة أقامها جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم على ما جاء في حديث إمامة جبريل عليه السلام . وقوله " حين تدحض الشمس " بفتح التاء والحاء . والمراد به هاهنا : زوالها . واللفظة من حيث الوضع أعم من هذا . وظاهر اللفظ يقتضي وقوع صلاته صلى الله عليه وسلم الظهر عند الزوال . ولا بد من تأويله . وقد اختلف أصحاب الشافعي فيما تحصل به فضيلة أول الوقت : فقال بعضهم : إنما تحصل بأن يقع أول الصلاة مع أول الوقت ، بحيث تكون شروط الصلاة متقدمة على دخول الوقت . وتكون الصلاة واقعة في أوله . وقد يتمسك هذا [ ص: 171 ] القائل بظاهر هذا الحديث . فإنه قال " يصلي حين تزول " فظاهره : وقوع أول الصلاة في أول جزء من الوقت عند الزوال ; لأن قوله " يصلي " يجب حمله على " يبتدئ الصلاة " فإنه لا يمكن إيقاع جميع الصلاة حين تدحض الشمس .

                                        ومنهم من قال : تمد فضيلة أول الوقت إلى نصف وقت الاختيار . فإن النصف السابق من الشيء ينطلق عليه أول الوقت بالنسبة إلى المتأخر ومنهم من قال - وهو الأعدل - إنه إذا اشتغل بأسباب الصلاة عقيب دخول أول الوقت ، وسعى إلى المسجد ، وانتظر الجماعة - وبالجملة : لم يشتغل بعد دخول الوقت إلا بما يتعلق بالصلاة - فهو مدرك لفضيلة أول الوقت . ويشهد لهذا : فعل السلف والخلف .

                                        ولم ينقل عن أحد منهم أنه كان يشدد في هذا ، حتى يوقع أول تكبيرة في أول جزء من الوقت . وقوله " والشمس حية " مجاز عن بقاء بياضها ، وعدم مخالطة الصفرة لها . وفيه دليل على ما قدمناه من الحديث السابق من تقديمها . وقوله " وكان يستحب أن يؤخر من العشاء " يدل على استحباب التأخير قليلا لما تدل عليه لفظة " من " من التبعيض الذي حقيقته راجعة إلى الوقت ، أو الفعل المتعلق بالوقت . وقوله " التي تدعونها : العتمة " اختيار لتسميتها بالعشاء ، كما في لفظ الكتاب العزيز . وقد ورد في تسميتها بالعتمة ما يقتضي الكراهة وورد أيضا في الصحيح تسميتها بالعتمة . ولعله لبيان الجواز ، أو لعل المكروه : أن يغلب عليها اسم " العتمة " بحيث يكون اسم " العشاء " لها مهجورا ، أو كالمهجور .

                                        " وكراهية النوم قبلها " لأنه قد يكون سببا لنسيانها ، أو لتأخيرها إلى خروج وقتها المختار . " وكراهة الحديث بعدها " إما : لأنه يؤدي إلى سهر يفضي إلى النوم عن الصبح ، أو إلى إيقاعها في غير وقتها المستحب . أو لأن الحديث قد يقع [ ص: 172 ] فيه من اللغط واللغو ما لا ينبغي ختم اليقظة به ، أو لغير ذلك . والله أعلم .

                                        والحديث هاهنا : قد يخص بما لا يتعلق بمصلحة الدين ، أو إصلاح المسلمين من الأمور الدنيوية . فقد صح " أن النبي صلى الله عليه وسلم حدث أصحابه بعد العشاء " وترجم عليه البخاري " باب السمر بالعلم " ويستثنى منه أيضا ما تدعو الحاجة إلى الحديث فيه من الأشغال التي تتعلق بها مصلحة الإنسان . وقوله " وكان ينفتل . .. إلخ " دليل على التغليس بصلاة الفجر : فإن ابتداء معرفة الإنسان لجليسه يكون مع بقاء الغبش . وقوله " وكان يقرأ بالستين إلى المائة " أي بالستين من الآيات إلى المائة منها . وفي ذلك مبالغة في التقدم في أول الوقت . لا سيما مع ترتيل قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم .




                                        الخدمات العلمية