الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        الشرط الثالث : اجتماع الإمام والمأموم في الموقف . ولهما ثلاثة أحوال . الأول : إذا كانا في مسجد ، صح الاقتداء ، قربت المسافة بينهما أم بعدت لكبر المسجد ، وسواء اتحد البناء أم اختلف ، كصحن المسجد ، وصفته ، أو منارته وسرداب فيه ، أو سطحه وساحته ، بشرط أن يكون السطح من المسجد ، فلو كان مملوكا ، فهو كملك متصل بالمسجد ، وقف أحدهما فيه ، والآخر في المسجد . وسيأتي في القسم الثالث إن شاء الله تعالى . وشرط البناءين في المسجد ، أن يكون [ ص: 361 ] باب أحدهما نافذا إلى الآخر . وإلا ، فلا يعدان مسجدا واحدا . وإذا حصل هذا الشرط ، فلا فرق بين أن يكون الباب بينهما مفتوحا ، أو مردودا مغلقا ، أو غير مغلق . وفي وجه ضعيف : إن كان مغلقا ، لم يجز الاقتداء . ووجه مثله فيما إذا كان أحدهما على السطح ، وباب المرقى مغلقا . ولو كانا في مسجدين ، يحول بينهما نهر ، أو طريق ، أو حائط المسجد من غير باب نافذ من أحدهما إلى الآخر ، فهو كما إذا وقف أحدهما في مسجد ، والآخر في ملك . وسيأتي إن شاء الله تعالى . وإن كان في المسجد نهر ، فإن حفر النهر بعد المسجد ، فهو مسجد فلا يضر ، وإن حفر قبل مصيره مسجدا ، فهما مسجدان غير متصلين . قال الشيخ أبو محمد : لو كان في جوار المسجد مسجد آخر منفرد بإمام ، ومؤذن ، وجماعة ، فلكل واحد مع الآخر حكم الملك المتصل بالمسجد . وهذا كالضابط الفارق بين المسجد والمسجدين . فظاهره يقتضي تغاير الحكم ، إذا انفرد بالأمور المذكورة ، وإن كان باب أحدهما نافذا إلى الآخر .

                                                                                                                                                                        قلت : الذي صرح به كثيرون ، منهم الشيخ أبو حامد ، وصاحب ( الشامل ) و ( التتمة ) ، وغيرهم : أن المساجد التي يفتح بعضها إلى بعض ، لها حكم مسجد واحد وهو الصواب . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        وأما رحبة المسجد ، فعدها الأكثرون منه ، ولم يذكروا فرقا بين أن يكون بينها وبين المسجد طريق أم لا . وقال ابن كج : إن انفصلت فهي كمسجد آخر .

                                                                                                                                                                        الحال الثاني : أن يكون في غير مسجد ، وهو ضربان : أحدهما : أن يكون في فضاء فيجوز الاقتداء ، بشرط أن لا يزيد ما بينهما على ثلاثمائة ذراع تقريبا على الأصح . وعلى الثاني : تحديد . والتقريب مأخوذ من العرف على الصحيح ، وقول الجمهور . وعلى الثاني : مما بين الصفين [ ص: 362 ] في صلاة الخوف . ولو وقف خلف الإمام صفان ، أو شخصان ، أحدهما وراء الآخر ، فالمسافة المذكورة تعتبر بين الصف الأخير ، أو الصف الأول ، أو الشخص الأخير والأول ، ولو كثرت الصفوف ، وبلغ ما بين الإمام والأخير فرسخا جاز . وفي وجه : يعتبر بين الإمام والصف الأخير إذا لم تكن الصفوف القريبة من الإمام متصلة على العادة . وهذا الوجه شاذ . ولو حال بين الإمام والمأموم ، أو الصفين نهر يمكن العبور من أحد طرفيه إلى الآخر بلا سباحة ، بالوثوب ، أو الخوض ، أو العبور على جسر - صح الاقتداء . وإن كان يحتاج إلى سباحة ، أو كان بينهما شارع مطروق ، لم يضر على الصحيح . وسواء في الحكم المذكور ، كان الفضاء مواتا أو وقفا ، أو ملكا ، أو بعضه مواتا ، وبعضه ملكا ، أو بعضه وقفا . وفي وجه شاذ : يشترط في الساحة المملوكة اتصال الصفوف ، وفي وجه : يشترط ذلك إن كانت لشخصين ، والصحيح أنه لا يشترط مطلقا . وسواء في هذا كله كان الفضاء محوطا عليه أو مسقفا ، كالبيوت الواسعة أو غير محوط .

                                                                                                                                                                        الضرب الثاني : أن يكونا في غير فضاء فإذا وقف أحدهما في صحن دار أو صفتها والآخر في بيت ، فموقف المأموم قد يكون عن يمين الإمام أو يساره ، وقد يكون خلفه . وفيه طريقتان . إحداهما : قالها القفال وأصحابه ، وابن كج ، وحكاها أبو علي في ( الإفصاح ) عن بعض الأصحاب : أنه يشترط فيما إذا وقف من أحد الجانبين ، أن يتصل الصف من البناء الذي فيه الإمام ، إلى البناء الذي فيه المأموم ، بحيث لا تبقى فرجة تسع واقفا ، فإن بقيت فرجة لا تسع واقفا ، لم يضر على الصحيح . ولو كان بينهما عتبة عريضة تسع واقفا ، اشترط وقوف مصل فيها وإن لم يمكن الوقوف عليها ، فعلى الوجهين في الفرجة اليسيرة . وأما إذا وقف خلف الإمام ، ففي صحة الاقتداء وجهان . أحدهما : البطلان . وأصحهما : الجواز إذا اتصلت الصفوف وتلاحقت . ومعنى اتصالها ، أن يقف رجل أو صف في آخر البناء [ ص: 363 ] الذي فيه الإمام ، ورجل أو صف في أول البناء الذي فيه المأموم ، بحيث لا يكون بينهما أكثر من ثلاثة أذرع . والثلاث للتقريب . فلو زاد ما لا يتبين في الحس بلا ذرع لم يضر . وهذا القدر هو المشروع بين الصفين . وإذا وجد هذا الشرط ، فلو كان في بناء المأموم بيت عن اليمين ، أو الشمال ، اعتبر الاتصال بتواصل المناكب . هذه طريقة . الطريقة الثانية : طريقة أصحاب أبي إسحاق المروزي ، ومعظم العراقيين ، واختارها أبو علي الطبري : أنه لا يشترط اتصال الصف في اليمين واليسار ، ولا اتصال الصفوف في المواقف خلفه ، بل المعتبر : القرب والبعد على الضبط المذكور في الصحراء .

                                                                                                                                                                        قلت : الطريقة الثانية : أصح . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        هذا إذا كان بين البناءين باب نافذ فوقف بحذائه صف أو رجل ، أو لم يكن جدار أصلا كالصحن مع الصفة ، فلو حال حائل يمنع الاستطراق والمشاهدة ، لم يصح الاقتداء باتفاق الطريقتين ، وإن منع الاستطراق دون المشاهدة كالمشبك ، لم يصح على الأصح . وإذا صح اقتداء الواقف في البناء الآخر ، إما بشرط ، وإما دونه - صحت صلاة الصفوف خلفه تبعا له ، وإن كان بينهم وبين البناء الذي فيه الإمام جدار ، وتكون الصفوف مع هذا الواقف كالمأمومين مع الإمام ، حتى لا تصح صلاة من بين يديه ، إن تأخر عن سمت موقف الإمام ، إذ لم يجوز تقدم المأموم على الإمام . قال القاضي حسين : ولا يجوز أن يتقدم تكبيرهم على تكبيره . أما إذا وقف الإمام في صحن الدار ، والمأموم في مكان عال من سطح ، أو طرف صفة مرتفعة ، أو بالعكس ، فبماذا يحصل الاتصال ؟ وجهان . أحدهما ، قول الشيخ أبي محمد : إن كان رأس الواقف في السفل يحاذي ركبة الواقف في العلو صح الاقتداء ، وإلا فلا . والثاني : وهو الصحيح الذي قطع به الجماهير ، إن حاذى رأس الأسفل قدم الأعلى صح ، وإلا فلا . قال إمام [ ص: 364 ] الحرمين : الأول مزيف لا وجه له ، والاعتبار ، بمعتدل القامة . حتى لو كان قصيرا ، أو قاعدا فلم يحاذ ، ولو قام فيه معتدل القامة ، لحصلت المحاذاة ، كفى . وحيث لا يمنع الانخفاض القدوة ، وكان بعض الذين يحصل بهم الاتصال على سرير أو متاع ، وبعضهم على الأرض لم يضر . ولو كانا في البحر والإمام في سفينة والمأموم في أخرى وهما مكشوفتان فالصحيح أنه يصح الاقتداء إذا لم يزد ما بينهما على ثلاثمائة ذراع ، كالصحراء ، وتكون السفينتان كدكتين في الصحراء ، يقف الإمام على إحداهما ، والمأموم على الأخرى . وقال الإصطخري : يشترط أن تكون سفينة الإمام مشدودة بسفينة المأموم . والجمهور على أنه ليس بشرط . وإن كانتا مسقفتين فهما كالدارين ، والسفينة التي فيها بيوت ، كالدار ذات البيوت . وحكم المدارس والرباطات والخانات حكم الدور . والسرادقات في الصحراء ، كالسفينة المكشوفة ، والخيام كالبيوت .

                                                                                                                                                                        الحال الثالث : أن يكون أحدهما في المسجد ، والآخر خارجه ، فمن ذلك أن يقف الإمام في مسجد ، والمأموم في موات متصل به . فإن لم يكن بينهما حائل جاز ، إذا لم تزد المسافة على ثلاثمائة ذراع ، ويعتبر من آخر المسجد على الأصح . وعلى الثاني ، من آخر صف في المسجد . فإن لم يكن فيه إلا الإمام فمن موقفه . وعلى الثالث ، من حريم المسجد بينه وبين الموات . وحريمه : الموضع المتصل به ، المهيأ لمصلحته ، كانصباب الماء إليه ، وطرح القمامات فيه ، ولو كان بينهما جدار المسجد ، لكن الباب النافذ بينهما مفتوح ، فوقف بحذائه جاز ، ولو اتصل صف بالواقف في المحاذاة ، وخرجوا عن المحاذاة جاز ، ولو لم يكن في الجدار باب أو كان ولم يقف بحذائه بل عدل عنه ، فالصحيح الذي عليه الجمهور : أنه يمنع صحة الاقتداء . وقال أبو إسحاق المروزي : لا يمنع . وأما الحائل غير جدار المسجد ، فيمنع بلا خلاف . ولو كان بينهما باب مغلق [ ص: 365 ] فهو كالجدار ، لأنه يمنع الاستطراق والمشاهدة . وإن كان مردودا غير مغلق ، فهو مانع من المشاهدة دون الاستطراق ، أو كان بينهما مشبك ، فهو مانع من الاستطراق دون المشاهدة . ففي الصورتين ، وجهان . أصحهما عند الأكثرين : أنه مانع . هذا كله في الموات . فلو وقف المأموم في شارع متصل بالمسجد ، فهو كالموات على الصحيح . وعلى الثاني يشترط اتصال الصف من المسجد بالطريق . ولو وقف في حريم المسجد ، فقد ذكر في ( التهذيب ) : أنه كالموات ، وذكر أن الفضاء المتصل بالمسجد لو كان مملوكا ، فوقف المأموم فيه ، لم يصح اقتداؤه حتى يتصل الصف من المسجد بالفضاء . وكذلك يشترط اتصال الصف من سطح المسجد ، بالسطح المملوك ، وكذلك لو وقف في دار مملوكة متصلة بالمسجد ، يشترط الاتصال بأن يقف واحد في آخر المسجد متصل بعتبة الدار ، وآخر في الدار متصل بالعتبة بحيث لا يكون بينهما موقف رجل . وهذا الذي ذكره في الفضاء مشكل . وينبغي أن يكون كالموات . وأما ما ذكره في مسألة الدار ، فهو الصحيح . وقال أبو إسحاق المروزي : جدار المسجد لا يمنع ، كما قال في الموات . وقال أبو علي الطبري : لا يشترط اتصال الصفوف إذا لم يكن حائل . ويجوز الاقتداء إذا كان في حد القرب .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية