الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              حدثنا عثمان بن محمد العثماني ، ثنا أحمد بن محمد أبو الحسن الأنصاري ، قال : سمعت يوسف بن الحسن ، يقول : قال ذو النون المصري يوما وأتاه رجل فقال له : أوصني فقال : " بم أوصيك ؟ إن كنت ممن قد أيد منه في علم الغيب بصدق التوحيد فقد سبق لك قبل أن تخلق إلى يومنا هذا دعاء النبيين والمرسلين والصديقين وذلك خير لك من وصيتي لك ، وإن يكن غير ذلك فلن ينفعك النداء " .

              حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ، ثنا أبو بكر الدينوري ، ثنا محمد بن أحمد الشمشاطي ، قال : سمعت ذا النون ، يقول : " بينا أنا سائر على شاطئ نيل مصر إذا أنا بجارية ، عليها دباء شعث الكلال ، وإذا القلب منها متعلق بحب الجبار ، وهي منقطعة في نيل مصر وهو يضطرب بأمواجه ، فبينا هي كذلك إذ نظرت إلى حوت ينساب بين الوجبتين فرمت بطرفها إلى السماء وبكت ، وأنشأت تقول : لك تفرد المتفردون في الخلوات ، ولعظيم رجاء ما عندك سبح الحيتان في البحور الزاخرات ، ولجلال هيبتك تصافقت الأمواج في البحور المستفحلات ، ولمؤانستك استأنست [ ص: 355 ] بك الوحوش في الفلوات ، وبجودك وكرمك قصد إليك يا صاحب البر والمسامحات ، ثم ولت عني ، وهي تقول :


              يا مؤنس الأبرار في خلواتهم يا خير من حطت به النزال     من نال حبك لا ينال تفجعا
              القلب يعلم أن ما يفنى محال



              ثم غابت عني فلم أرها ، فانصرفت وأنا حزين القلب ، ضعيف الرأي " .

              حدثنا عبد الله بن محمد ، ثنا أبو بكر ، ثنا محمد بن أحمد ، قال : سمعت ذا النون ، يقول : بينا أنا سائر ، بين جبال الشام ، إذا أنا بشيخ على تلعة من الأرض قد تساقطت حاجباه على عينيه كبرا ، فتقدمت إليه فسلمت عليه فرد علي السلام ، ثم أنشأ وهو يقول بصوت عليل : " يا من دعاه المذنبون فوجدوه قريبا ، ويا من قصد إليه الزاهدون فوجدوه حبيبا ، ويا من استأنس به المجتهدون فوجدوه سريعا مجيبا ، ثم أنشأ يقول :


              وله خصائص مصطفين لحبه     اختارهم في سالف الأزمان
              اختارهم من قبل فطرة خلقه     فهم ودائع حكمة وبيان



              ثم صرخ صرخة فإذا هو ميت " .

              حدثنا عبد الله بن محمد ، ثنا أبو بكر بن محمد ، قال : سمعت ذا النون ، يقول : " إن لله عبادا فتقوا الحجب ، وعلوا النجب ، حتى كشف لهم الحجب فسمعوا كلام الرب " .

              قال : وسمعت ذا النون ، يقول : " إن لله عبادا على الأرائك يسمعون كلام الله إذا كلم المحبين في المشهد الأعلى ; لأنهم عبدوه سرا ، فأوصل إلى قلوبهم طرائف البر ، عملوا ببعض ما علموا فلما وقفوا في الظلام بين يديه هدى قلوبهم إلى ما يعلمون فحسرت ألبابهم لمعرفة الوقوف بين يديه " .

              حدثنا أبو الحسن محمد بن محمد بن عبيد الله ، ثنا أحمد بن عيسى الوشاء ، قال : سمعت سعيد بن الحكم ، يقول : سمعت ذا النون ، يقول : " لكل قوم عقوبة وعقوبة العارف انقطاعه من ذكر الله " .

              حدثنا محمد بن أحمد ، قال : سمعت أحمد بن عيسى ، يقول : سمعت أبا عثمان سعيد بن الحكم يقول : سئل ذو النون : " من أدوم الناس عناء ؟ قال : أسوءهم [ ص: 356 ] خلقا ، قيل : وما علامة سوء الخلق ، قال : كثرة الخلاف .

              قال : وسمعت ذا النون يقول : سئل جعفر بن محمد ، عن السفلة ، فقال : " من لا يبالي ما قال ولا ما قيل فيه " .

              حدثنا محمد بن محمد ، ثنا أحمد بن عيسى ، ثنا سعيد بن الحكم ، قال : سمعت ذا النون ، يقول : دخلت على متعبدة ، فقلت لها : كيف أصبحت ؟ قالت : " أصبحت من الدنيا على فناء ، مبادرة للجهاز ، متأهبة لهول يوم الجواز ، أعترف لله على ما أنعم بتقصيري عن شكرها ، وأقر بضعفي عن إحصائها وشكرها ، قد غفلت القلوب عنه وهو منشئها ، وأدبرت عنه النفوس وهو يناديها ، فسبحانه ما أمهله للأنام مع تواتر الأيادي والإنعام ؟! " .

              قال : وسمعت ذا النون ، يقول : " بينا أنا أسير في بلاد الشام إذا أنا بعابد خرج من بعض الكهوف ، فلما نظر إلي استتر بين تلك الأشجار ثم قال : أعوذ بك سيدي ممن يشغلني عنك يا مأوى العارفين وحبيب التوابين ومعين الصادقين . وغاية أمل المحبين . ثم صاح : واغماه من طول البكاء ، واكرباه من طول المكث في الدنيا ، ثم قال : سبحان من أذاق قلوب العارفين به حلاوة الانقطاع إليه فلا شيء ألذ عندهم من ذكره والخلوة بمناجاته ، ثم مضى وهو يقول : قدوس قدوس قدوس . فناديته : أيها العابد قف لي ، فوقف لي وهو يقول : اقطع عن قلبي كل علاقة ، واجعل شغله بك دون خلقك ، فسلمت عليه ثم سألته أن يدعو الله لي ، فقال : خفف الله عنك مؤن نصب السير إليه ، ودلك على رضاه حتى لا يكون بينك وبينه علاقة ، ثم سعى من بين يدي كالهارب من السبع " .

              حدثنا عثمان بن محمد العثماني ، ثنا محمد بن أحمد المذكر ، عن بعض أصحابه ، قال : قال ذو النون لفتى من النساك : يا فتى ، خذ لنفسك بسلاح الملامة ، واقمعها برد الظلامة ، تلبس غدا سرابيل السلامة ، واقصرها في روضة الأمان ، وذوقها مضض فرائض الإيمان ، تظفر بنعيم الجنان ، وجرعها كأس الصبر ، ووطنها على الفقر حتى تكون تام الأمر . فقال له الفتى : وأي نفس تقوى على هذا ؟ فقال : نفس على الجوع صبرت ، وفي سربال الظلام خطرت ، نفس [ ص: 357 ] ابتاعت الآخرة بالدنيا بلا شرط ولا ثنيا ، نفس تدرعت رهبانية القلق ، ورعت الدجى إلى واضح الفلق ، فما ظنك بنفس في وادي الحنادس سلكت وهجرت اللذات فملكت ، وإلى الآخرة نظرت ، وإلى العيناء أبصرت وعن الذنوب أقصرت ، وعلى الذر من القوت اقتصرت ، ولجيوش الهوى قهرت ، وفي ظلم الدياجي سهرت ، فهي بقناع الشوق مختمرة ، وإلى عزيزها في ظلم الدجى مشتمرة ، قد نبذت المعايش ورعت الحشايش ، هذه نفس خدوم عملت ليوم القدوم ، وكل ذلك بتوفيق الحي القيوم .

              حدثنا عثمان بن محمد ، ثنا أبو بكر محمد بن أحمد البغدادي ، ثنا أبو جعفر محمد بن عبد الملك بن هاشم ، قال : قلت لذي النون : صف لنا من خيار من رأيت ، فذرفت عيناه وقال : " ركبنا مرة في البحر نريد جدة ومعنا فتى من أبناء نيف وعشرين سنة ، قد ألبس ثوبا من الهيبة ، فكنت أحب أن أكلمه فلم أستطع . بينما نراه قارئا ، وبينما نراه صائما ، وبينما نراه مسبحا ، إلى أن رقد ذات يوم ووقعت في المركب تهمة فجعل الناس يفتش بعضهم بعضا إلى أن بلغوا إلى الفتى النائم ، فقال صاحب الصرة : لم يكن أحد أقرب إلي من هذا الفتى النائم . فلما سمعت ذلك قمت فأيقظته فما كان حتى توضأ للصلاة وصلى أربع ركعات ، ثم قال : يا فتى ما تشاء ، فقلت : إن تهمة وقعت في المركب وإن الناس قد فتش بعضهم بعضا حتى بلغوا إليك . فالتفت إلى صاحب الصرة ، وقال : أكما يقول ؟ فقال : نعم ، لم يكن أحد أقرب إلي منك . فرفع الفتى يديه يدعو وخفت على أهل المركب من دعائه وخيل إلينا أن كل حوت في البحر قد خرج ، في فم كل حوت درة ، فقام الفتى إلى جوهرة في في حوت فأخذها فألقاها إلى صاحب الصرة ، وقال : في هذه عوض مما ذهب منك وأنت في حل " .

              حدثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم ، ثنا أحمد بن محمد بن حمدان ، ثنا عبد القدوس بن عبد الرحمن الشاشي ، قال سمعت أبا الفيض ذا النون يقول : " إلهي من ذا الذي ذاق طعم حلاوة مناجاتك فألهاه شيء عن طاعتك ومرضاتك ؟ [ ص: 358 ] أم من ذا الذي ضمنت له النصر في دنياه وآخرته فاستنصر بمن هو مثله في عجزه وفاقته ؟ أم من ذا الذي تكفلت له بالرزق في سقمه وصحته فاسترزق غيرك بمعصيتك في طاعته ؟ أم من ذا الذي عرفته آثامه فلم يحتمل خوفا منك مئونة فطامه ؟ أم من ذا الذي أطلعته على ما لديك ثم انقطع إليك من كرامته فأعرض عنك صفحا إخلادا إلى الدعة في طلب راحته ؟ من ذا الذي عرف دنياه وآخرته فآثر الفاني على الباقي لحمقه وجهالته ؟ أم من ذا الذي شرب الصافي من كأس محبتك فلم يستبشر بقوارع محنتك ؟ أم من ذا الذي عرف حسن اختيارك لخلقك في قدرتك فلم يرض بذلك ؟ أم من ذا الذي عرف علمك بسره وعلانيته وقدرتك على نفعه وضره فلم يكتف بك عن علم غيرك به ولم يستغن بك عن قدرة عاجز مثله " .

              حدثنا أبي ، ثنا أحمد بن محمد بن مصقلة ، ثنا أبو عثمان سعيد بن عثمان ، قال : سمعت ذا النون ، يدعو : " اللهم متع أبصارنا بالجولان في جلالك ، وسهرنا عما نامت عنه عيون الغافلين ، واجعل قلوبنا معقودة بسلاسل النور ، وعلقها بأطناب التفكر ، ونزه أبصارنا عن سر مواقف المتحيرين ، وأطلقنا من الأسر لنجول في خدمتك مع الجوالين ، اللهم اجعلنا من الذين استعملوا ذكر قطع اللذات ، وخالفوا متاع الغرة بواضحات المعرفة . اللهم اجعلنا من الذين لخدمتك في أقطار الأرض لهم طلابا ، ولخصائص أصفيائك أصحابا ، وللمريدين المعتكفين ببابك أحبابا . اللهم اجعلنا من الذين غسلوا أوعية الجهل بصفو ماء الحياة في مسالك النعيم ، حتى جالت في مجالس الذكر مع رطوبة ألسنة الذاكرين .

              اللهم اجعلنا من الذين رتعوا في زهرة ربيع الفهم حتى تسامت أسنية الفكرة فوق سمو السمو حتى تسامى بهم نحو مسام العلويين براحات القلوب ، ومستنبطات عيون الغيوب بطول استغفار الوجوه في محاريب قدس رهبانية الخاشعين ، حتى لاذت أبصار القلوب بجواهر السماء ، وعبرت أفنية النواحين من مصاف الكروبين ومجالسة الروحانيين فتوهموا أن قد قرب احتراق بالقلوب عند إرسال الفكرة في مواقع الأحزان بين يديك [ ص: 359 ] ، فأحرقت نار الخشية بصائر مناقب الشهوات من قلوبهم ، وسكنت خوافي ضلوع مضايق الغفلات من صدورهم ، فأنبت ذكر الصلوات رقاد قلوبهم " .

              حدثنا عثمان بن محمد العثماني ، قال : قرأ علي أبو الحسن أحمد بن محمد بن عيسى الرازي قال : سمعت يوسف بن الحسين ، يقول : سمعت ذا النون ، يقول : " بالعقول يجتنى ثمر القلوب ، وبحسن الصوت تستمال أعنة الأبصار ، وبالتوفيق تنال الحظوة وبصحبة الصالحين تطيب الحياة ، والخير مجموع في القرين الصالح إن نسيت ذكرك ، وإن ذكرت أعانك " .

              حدثنا عثمان بن محمد ، أخبرنا أحمد بن محمد ، قال : سمعت يوسف بن الحسين ، يقول : سمعت ذا النون ، يقول : " حرم الله الزيادة في الدين ، والإلهام في القلب ، والفراسة في الخلق على ثلاثة نفر : على بخيل بدنياه ، وسخي بدينه ، وسيئ الخلق مع الله . فقال له رجل : بخيل بالدنيا عرفناه ، وسخي بدينه عرفناه ، صف لنا سيئ الخلق مع الله . قال : يقضي الله قضاء ويمضي قدرا وينفذ علما ويختار لخلقه أمرا ، فترى صاحب سوء الخلق مع الله مضطربا في ذلك كله غير راض به ، دائما شكواه من الله إلى خلقه فما ظنك " .

              حدثنا عثمان بن محمد ، أخبرنا أحمد بن محمد ، قال : سمعت يوسف بن الحسين ، يقول : قلت لذي النون : " دلني على الطريق الذي يؤديني إليه من ذكره . فقال : من أنس بالخلوة فقد استمكن من بساط الفراغ ، ومن غيب عن ملاحظة نفسه فقد استمكن من مقاعد الإخلاص ، ومن كان حظه من الأشياء هواه لم يبال ما فاته ممن هو دونه ، ثم قال : المتضع يبدي غير الذي هو به ، والصادق لا يبالي على أي جنب وقع " .

              قال : وسمعت ذا النون يقول : " العارف متلوث الظاهر صافي الباطن ، والزاهد صافي الظاهر متلوث الباطن " .

              قال : وسمعت ذا النون ، يقول : " إن المؤمن إذا آمن بالله واستحكم إيمانه خاف الله ، فإذا خاف الله تولدت من الخوف هيبة الله ، فإذا سكن درجة الهيبة دامت طاعته لربه ، فإذا أطاع تولدت من الطاعة الرجاء فإذا سكن درجة الرجاء تولدت من الرجاء المحبة ، فإذا استحكمت معاني المحبة في قلبه سكن بعدها درجة الشوق ، فإذا [ ص: 360 ] اشتاق أداه الشوق إلى الأنس بالله ، فإذا أنس بالله اطمأن إلى الله ، فإذا اطمأن إلى الله كان ليله في نعيم ، ونهاره في نعيم ، وسره في نعيم ، وعلانيته في نعيم " .

              حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ، ثنا أبو بكر الدينوري ، ثنا محمد بن أحمد الشمشاطي ، قال : سمعت ذا النون المصري ، يقول : " إن لله عبادا أسكنهم دار السلام فأخمصوا البطون عن مطاعم الحرام ، وأغمضوا الجفون عن مناظر الآثام ، وقيدوا الجوارح عن فضول الكلام ، وطووا الفرش وقاموا جوف الظلام ، وطلبوا الحور الحسان من الحي الذي لا ينام ، فلم يزالوا في نهارهم صياما وفي ليلهم قياما ، حتى أتاهم ملك الموت عليه السلام " .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية