الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ثابت: وأرسطوطاليس يقول: فإن كان الأمر كما يظن من رأى أن للعالم ابتداء زمانيا، فما العلة التي أوجبت أو دعت إلى إخراج العالم إلى الوجود بعد أن لم يكن موجودا زمانا بلا نهاية؟ وما هذه العلة الباعثة للعلة الأولى على ذلك؟ وما كانت العلة المرتبة؟.

فيقال له: هذا كله يبين فساد قولك، فإنه يقال: إما أن يكون العالم واجب الوجود بنفسه، وإما أن يكون ممكنا. فإن كان واجبا بنفسه، فما العلة التي أوجبت أو دعت إلى إحداث ما فيه من الحوادث، وحركته المتحددة، وتحريكه لما يحركه؟ وما هذه العلة الباعثة للواجب بنفسه على [ ص: 285 ] ذلك؟ وما كانت العلة المرتبة له عن إحداث الحوادث المتأخرة؟ فإنه لا يزال تحدث فيه أمور بعد أمور، فما الموجب لتأخر هذه الحوادث بعد أن لم تكن حادثة؟

فأي شيء أجاب به عن ذلك كان جوابا له.

فإن قال: ليستكمل الشروط التي بها تتم الحوادث فقد جوز أن يكون فعل الواجب الوجود لا يتم إلا بشروط تحدث، وحينئذ فيجوز أن يقال: إن الموجب لتأخر فعله للعالم لتتم شروط إحداثه للعالم؛ إذ كان فعل الواجب بنفسه، على هذا التقدير، قد يتوقف على الشروط التي بها يحدث.

وإن قال: إن العالم ممكن.

قيل له: فلا بد له من واجب فعله. وحينئذ فقد فعله على الوجه الذي هو عليه من تأخر الحوادث، فما الذي أوجب للفاعل أن يؤخر ما حدث من الحوادث؟ وما الذي دعاه إلى إخراج الحوادث إلى الوجود بعد أن لم تكن؟ وما العلة الباعثة للفاعل إلى ذلك؟

وأيضا فيقال لهم: إن كان ممكنا صادرا عن الواجب، فما الذي أوجب الأول أن يفعله؟ وما الذي دعاه إلى ذلك؟

فإن قالوا: مجرد ذاته المجردة أوجبت ذلك.

قيل: فإذا كانت موجبة لما يصدر عنها، لا يقف شيء من فعلها على غير الذات المجردة، وجب اقتران كل ما صدر عنها بها، ووجب اقتران الصادر عن الصادر به، فحينئذ لا يتأخر شيء عن العالم، بل يكون كله [ ص: 286 ] بجميع أجزائه قديما ملازما للذات المجردة، وهو خلاف الحس والمشاهدة.

وأيضا فيقال له: فعل الأول إما أن يقف على داع، وإما أن لا يقف على داع. فإن وقف على داع، قيل لك: ما الداعي الموجب لإبداعه للعالم على ما هو عليه من الأمور المختلفة والحادثة؟ وإن لم يقف على داع جاز أن يحدث ما حدث بلا داع، ولم يجب أن يكون لفعله علة.

قال ثابت: ويلزم أهل هذا الرأي أن يكون في المبدأ الأقصى الذي عنده يتناهى الأبد في ابتداء كل فعل ما هو بالقوة، وما بالقوة ليس يخرجه ما هو له بالقوة بغير علة داخلة عليه من خارج يصير معلولا لها في تلك الجهة؛ لأنه إن كان ليس لإخراج ما هو له بالقوة إلى الفعل سبب غير ذاته، فيجب أن يكون وجوب ذلك الأمر بالفعل مع وجود تلك الذات المخرجة له، وذلك الشيء غير متأخر عن وجودها، وإن كان له سبب غير ذاته، فإذن تكون العلة الأولى والمبدأ الأول ليس بمبدأ أول على الحقيقة؛ لأنه يحتاج حينئذ إن كانت تلك حاله إلى مبدأ آخر. وأيضا فيلزم جوهر العلة الأولى، وإن كان لها ما هو بالقوة حينا لم يخرج إلى الفعل حينا تغير. وهذا أمر قد أضرب عنه سائر القدماء، فينبغي أن يسلم لأرسطوطاليس أن العلة الأولى على غاية ما يمكن من التمام والكمال.

وكما أنه ليس يمكن منه في مادة من المواد أن تؤخرها الطبيعة لحظة من غير أن يعمل منها أجود ما ينعمل من مثلها، ما لم يعتور ذلك شيء من خارج، كذلك يرى أرسطوطاليس أن الأمر واجب في جملة أمر العالم، أي في وجود جملته؛ إذ كان إمكانه لم يزل، والإمكان له بمنزلة المادة.

التالي السابق


الخدمات العلمية