الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولكل وجهة أي: لكل أهل ملة أو جماعة من المسلمين واليهود والنصارى، أو لكل قوم من المسلمين جهة وجانب من الكعبة يصلى إليها جنوبية أو شمالية أو شرقية أو غربية. وتنوين ( كل ) عوض عن المضاف إليه، و ( وجهة ) جاء على الأصل، والقياس (جهة) مثل عدة وزنة، وهي مصدر بمعنى المتوجه إليه كالخلق بمعنى المخلوق، وهو محذوف الزوائد؛ لأن الفعل توجه أو اتجه، والمصدر التوجه أو الاتجاه، ولم يستعمل منه وجه كوعد، وقيل : إنها اسم للمكان المتوجه إليه، فثبوت الواو ليس بشاذ، وقرأ أبي ( ولكل قبلة ). هو موليها الضمير المرفوع عائد إلى ( كل ) باعتبار لفظه، والمفعول الثاني للوصف محذوف؛ أي: وجهه أو نفسه؛ أي: مستقبلها، ويحتمل أن يكون الضمير لله تعالى؛ أي: الله موليها إياه. وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أنه قرأ ( ولكل وجهة ) بالإضافة، وقد صعب تخريجها حتى تجرأ بعضهم على ردها، وهو خطأ عظيم، وخرجها البعض أن ( كل ) كان في الأصل منصوبا على أنه مفعول به لعامل محذوف يفسره موليها وضمير هو عائد إلى الله - تعالى - قطعا، ثم زيدت اللام في المفعول به صريحا لضعف العامل المقدر من جهتين، كونه اسم فاعل، وتقديم المعمول عليه، والمفعول الآخر محذوف؛ أي: لكل وجهة الله مولى موليها، ورد بأن لام التقوية لا تزاد في أحد مفعولي المتعدي لاثنين؛ لأنه إما أن تزاد في الآخر، ولا نظير له، أو لا، فيلزم الترجيح بلا مرجح، وإن أجيب بإطلاق النحاة يقتضي جوازه، والترجيح بلا مرجح مدفوع هنا بأنه ترجح بتقديمه. وقيل : إن المجرور معمول للوصف المذكور على أنه مفعول به وله واللام مزيدة، أو أن الكلام من باب الاشتغال بالضمير، ولا يخفى أن هذين التخريجين يحوج أولهما إلى إرجاع الضمير المجرور بالوصف إلى التولية، وجعله مفعولا مطلقا كقوله :

                                                                                                                                                                                                                                      هذا سراقة للقرآن يدرسه

                                                                                                                                                                                                                                      لئلا يقال : كيف يعمل الوصف مع اشتغاله بالضمير، وثانيهما إلى القول : بأنه قد يجيء المجرور من باب الاشتغال على قراءة من قرأ والظالمين أعد لهم والقول : بأن اللام أصلية، والجار متعلق ( بصلوا ) محذوفا أو باستبقوا، ( والفاء ) زائدة بعيد بل لا أكاد أجيزه، وقرأ ابن عامر، وروي عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -: ( مولاها ) على صيغة اسم المفعول؛ أي: هو قد ولى تلك الجهة، فالضمير المرفوع حينئذ عائد [ ص: 15 ] إلى كل ألبتة، ولا يجوز رجوعه إلى الله تعالى لفساد المعنى. وأخرج ابن جرير، وابن أبي داود في المصاحف عن منصور، قال : "نحن نقرأ ( ولكل جعلنا قبلة يرضونها )". فاستبقوا الخيرات جمع خيرة بالتخفيف، وهي الفاضلة من كل شيء، والتأنيث باعتبار الخصلة، ( واللام ) للاستغراق، فيعم المحلى أمر القبلة وغيره، والخطاب للمؤمنين، والاستباق متعد كما في التاج، وقيل : لازم، و ( إلى ) بعده مقدرة؛ أي: إذا كان كذلك فبادروا أيها المؤمنون ما به يحصل السعادة في الدارين من استقبال القبلة وغيره، ولا تنازعوا من خالفكم؛ إذ لا سبيل إلى الاجتماع على قبلة واحدة لجري العادة على تولية كل قوم قبلة يستقبلها، وفي أمر المؤمنين بطلب التسابق فيما بينهم، كما قال السعد : "دلالة على طلب سبق غيرهم بطريق الأولى". وقيل : الاقتصار على سبق بعضهم إشارة إلى أن غيرهم ليس في طريق الخير حتى يتصور أمر أحد بالسبق إلى الخير عليه، ويجوز أن تكون ( اللام ) للعهد، فالمراد بالخيرات الفاضلات من الجهات التي تسامت الكعبة، وفيه إشارة إلى أن الصلاة إلى عين الكعبة أكثر ثوابا من الصلاة التي جهتها، وقيل : يحتمل أن يراد بها الصلوات الفاضلات، والمراد ( بالاستباق ) السرعة فيها والقيام بها في أول أوقاتها، وفيه بعد، وأبعد منه ما قيل : إن المعنى ( فاستبقوا قبلتكم )، وعبر عنها بالخيرات إشارة إلى اشتمالها على كل خير.

                                                                                                                                                                                                                                      واستدل الشافعية بالآية على أن الصلاة في أول الوقت بعد تحققه أفضل، وهي مسألة فرغ منها في الفروع، ولبعض العارفين في الآية وجه آخر، وهو أنه تعالى جعل الناس في أمور دنياهم وأخراهم على أحوال متفاوتة، فجعل بعضهم أعوان بعض، فواحد يزرع وآخر يطحن وآخر يخبز، وكذلك في أمر الدين؛ واحد يجمع الحديث، وآخر يحصل الفقه، وآخر يطلب الأصول، وهم في الظاهر مختارون، وفي الباطن مسخرون، وإليه الإشارة بقوله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: "كل ميسر لما خلق له". ولهذا قال بعض الصالحين لما سئل عن تفاوت الناس في أفعالهم : "كل ذلك طرق إلى الله - تعالى – أراد أن يعمرها بعباده، ومن تحرى وجه الله - تعالى - في كل طريق يسلكه وصل إليه، لكن ينبغي تحري الأحسن من تلك الطرق؛ إذ المراتب متفاوتة والشؤون مختلفة، ومظاهر الأسماء شتى"، وقيل : المراد بها أن لكل أحد قبلة، فقبلة المقربين العرش، والروحانيين الكرسي والكروبين البيت المعمور، والأنبياء قبلك بيت المقدس وقبلتك الكعبة، وهي قبلة جسدك، وأما قبلة روحك فأنا، وقبلتي أنت كما يشير إليه: "أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي". أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا ( أين ) : ظرف مكان تضمن معنى الشرط، و ( ما ) مزيدة، و يأت جوابها، والمعنى في أي موضع تكونوا من المواضع الموافقة لطبعكم كالأرض أو المخالفة كالسماء أو المجتمعة الأجزاء كالصخرة أو المتفرقة التي يختلط بها ما فيها كالرمل، يحشركم الله - تعالى - إليه لجزاء أعمالكم، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، والجملة معللة لما قبلها، وفيها حث على الاستباق بالترغيب والترهيب، وهي على حد قوله تعالى : يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله أو في أي موضع تكونوا من أعماق الأرض وقلل الجبال، يقبض الله – تعالى - أرواحكم إليه، فهي على حد قوله تعالى : أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة ففيها حث على الاستباق باغتنام الفرصة، فإن الموت لا يختص بمكان دون مكان، أو أينما تكونوا من الجهات المتقابلات يمنة ويسرة وشرقا وغربا، يجعل الله - تعالى - صلاتكم مع اختلاف جهاتها في حكم صلاة متحدة الجهة كأنها إلى عين الكعبة أو في المسجد الحرام، ( فيأت بكم ) مجاز عن جعل الصلاة متحدة الجهة، وفائدة الجملة المعللة حينئذ بيان حكم الأمر بالاستباق، ومنهم من قال: الخطاب [ ص: 16 ] في استبقوا إما عام للمؤمنين والكافرين، وإما خاص بالمؤمنين، فعلى الأول يراد هنا العموم؛ أي في أي موضع تكونوا من المواضع الموافقة للحق أو المخالفة له، وعلى الثاني الخصوص؛ أي: أينما تكونوا في الصلاة أيها المؤمنون من الجهات المتقابلة شمالا وجنوبا وشرقا وغربا بعد أن تولوا جهة الكعبة يجعل الله – تعالى - صلاتكم كأنها إلى جهة واحدة لاتحادكم في الجهة التي أمرتم بالاتجاه إليها، وليس بشيء كما لا يخفى إن الله على كل شيء قدير 148 ومن ذلك إماتتكم وإحياؤكم، وجمعكم والجملة تذييل، وتأكيد لما تقدم.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية