الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولما ذكر الناظم رحمه الله السلام والاستئذان وأحكامهما ذكر أشياء تتعلق بذلك ، فمنها القيام ، وبدأ به فقال :

مطلب : فيمن يجوز القيام له ومن يكره : وكل قيام لا لوال وعالم ووالده أو سيد كرهه امهد ( وكل قيام ) قامه الإنسان مكروه للنهي عنه في عدة أخبار سنذكر منها ما يليق بهذا الشرح ( لا ) يكره القيام مطلقا بل يباح ( لوال ) الأمر .

وظاهر إطلاق نظامه ولو غير عادل ، وأطلقه جماعة ; لأنه نائب عن الشريعة وقائم بالسياسة فيقام له إكراما لمنزلته . وقيل لا بد من كونه عادلا .

وقال ابن تميم : لا يستحب إلا للإمام العادل ( و ) لا يكره القيام أيضا ل ( عالم ) ; لأنه الحامل لكتاب الله الناقل لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الدال على الله وأحكامه ، المبين لحلال الشيء وحرامه ، المنبه على عظمته وآياته .

وفي الحديث { علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل } أي في حفظ الحدود والشريعة . وكونهم لامتثال الأوامر واجتناب النواهي أقوى ذريعة . ( و ) لا يكره القيام أيضا ( لوالده ) أي القائم ; لأنه السبب في وجوده ، والباذل في تربيته وحفظ حياته غاية مجهوده .

فالقيام للوالدين من إظهار البر والإجلال ، والانخفاض والامتثال ، وهو من جملة ودهما ، وما عساه أن يفعل في جنب كدهما ، وقد ربياه صغيرا ، وأسهرا أعينهما سهرا كثيرا . وقد قرن الله بشكره شكرهما لعظيم حقهما عليه ، وأمره أن يخفض لهما جناح الذل لكبر طاعتهما لديه .

وسيأتي ذلك إن شاء الله مفصلا بأدلته الكثيرة المنيرة ، عند قول الناظم وإن عقوق الوالدين كبيرة . ( أو ) أي لا يكره القيام أيضا ل ( سيد ) قوم لقول النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 320 ] { قوموا إلى سيدكم } وهذا في الصحيحين وذلك { أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حكم سعد بن معاذ في بني قريظة أرسل إليه فجاء راكبا على حمار وكان مجروحا فقال قوموا إلى سيدكم } وفي البخاري قال للأنصار { قوموا إلى سيدكم } واعترض بأن هذا أمر بالقيام إليه لا له .

والقيام إليه لأجل تلقيه لضعفه بالجراحة . ويؤيده ما عند الإمام أحمد { قوموا إلى سيدكم فأنزلوه } لكن ينصر كون الأمر بالقيام له آخر الخبر ، وكان رجال من بني الأشهل يقولون قمنا له على أرجلنا صفين يحييه كل رجل منا حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في السيرة الشامية .

ويحتمل أن الناظم أراد بالسيد الشريف القرشي ونحوه من ذوي الأنساب وهو ظاهر ما نقل عن الإمام أحمد رضي الله عنه . قال عبد الله : رأيت أبي إذا جاء الشيخ أو الحدث من قريش أو غيرهم من الأشراف لم يخرج من باب المسجد حتى يخرجهم فيكونوا هم يتقدمونه ثم يخرج من بعدهم .

وقال ابن تميم : لا يستحب القيام إلا للإمام العادل والوالدين والورع والكرم والنسب ، وهو معنى كلامه في المجرد والفصول ، وكذلك ذكر سيدنا الشيخ عبد القادر أغدق الله الرحمة على ضريحه .

والحاصل أن في القيام ثلاث روايات ، إحداها لا يقام إلا للوالدين ; لأن الإمام قال في رواية حنبل : لا يقوم أحد لأحد إلا الولد لوالده أو أمه ، أما غير الوالدين فلا . نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك .

( الثانية ) : يكره القيام إلا لقادم من سفر ; لأنه قال في رواية مثنى : لا يقوم أحد لأحد ، وأما إذا قدم من سفر فلا أعلم به بأسا إذا كان على التدين محبة في الله أرجو لحديث جعفر { أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتنقه وقبل بين عينيه } .

( الثالثة ) تؤخذ من نصوصه وهي موافقة لما قاله الأصحاب أن يقام للإمام ، وقيل العادل ، وأهل العلم والدين والورع والنسب والوالدين ، ولمن هو أسن منه ، وكريم قوم ، قال المروذي : كان أبو عبد الله من أشد الناس إكراما لإخوانه ، ومن هو أسن منه .

وجاء أبو إبراهيم الزهري أحمد بن سعد إلى الإمام أحمد فسلم عليه ، فلما رآه وثب إليه أو قام إليه قائما فأكرمه [ ص: 321 ] فلما أن مشى قال له ابنه عبد الله يا أبت أبو إبراهيم شاب وتعمل به هذا وتقوم إليه ؟ فقال له : يا بني لا تعارضني في مثل هذا ألا أقوم إلى ابن عبد الرحمن بن عوف ؟ ، { وقد قام طلحة رضي الله عنه لكعب بن مالك رضي الله عنه لما تاب الله عليه ، وكان بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر ذلك } .

وقال الإمام الحافظ ابن الجوزي أعلى الله مناره ، وأبقى على ممر الأيام آثاره : ترك القيام كان شعار السلف ، ثم صار ترك القيام كالأهوان بالشخص ، فينبغي أن يقام لمن يصلح .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رضوان الله عليه في الفتاوى المصرية : ينبغي ترك القيام في اللقاء المتكرر والمعتاد ، ونحوه لكن إذا اعتاد الناس القيام وقدم من لا يرى كرامته إلا به فلا بأس به .

فالقيام دفعا للعداوة والفساد خير من تركه المفضي إلى الفساد . وينبغي مع هذا أن يسعى في الاصطلاح على متابعة السنة . وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام { ليس منا من لا يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا } وأخرجه الترمذي بلفظ { ويعرف شرف كبيرنا } .

وأخرج الإمام أحمد عن عبادة مرفوعا ( { ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا ، ويرحم صغيرنا ، ويعرف لعالمنا حقه } . وقال صلى الله عليه وسلم { البركة مع أكابركم } رواه ابن حبان في صحيحه بإسناد جيد .

ولأبي داود بإسناد جيد من حديث أبي موسى { إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم ، وحامل القرآن غير المغالي فيه ولا الجافي عنه ، وإكرام ذي السلطان المقسط } قال ابن حزم : اتفقوا على إيجاب توقير أهل القرآن والإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم ، وكذلك الخليفة والفاضل والعالم ، وما عدا من ذكرنا من الذين يقام لهم من السلطان والعالم والوالد والسيد ومن نبهنا عليهم من الكريم والحسيب والشائب ، فالقيام لغيرهم ( كرهه ) أي كراهته تنزيها ( امهد ) فعل أمر من مهد كمنع وحرك بالكسر للقافية . يقال مهده كمنعه ، وتمهيد الأمر تسويته وإصلاحه ، وتمهيد العذر بسطه وقبوله .

[ ص: 322 ] فيحتمل أن الناظم أراد اقبل كراهة القيام لغير من ذكر وهو الأظهر ، ويحتمل أنه أراد ابسط كراهة ذلك ووطئها وانشرها وهيئها . والله أعلم . فيكره القيام لأهل المعاصي والفجور .

والذي يقام له ينبغي أن يكره ذلك ظاهرا وباطنا ولا يطلبه ; لما أخرج أبو داود بإسناد صحيح والترمذي وحسنه عن معاوية رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار } .

وأخرج أبو داود وابن ماجه بإسناد حسن عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال : { خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئا على عصا فقمنا إليه ، فقال لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضا } ولذا قال بعض علمائنا : النهي قد وقع على السرور بتلك الحال ، فإذا لم يسر بالقيام له وقاموا إليه فغير ممنوع .

وقال شيخ الإسلام أبو بكر والقاضي ومن تبعهما : فرقوا بين القيام لأهل الدين وغيرهم ، فاستحبوه لطائفة ، وكرهوه لأخرى . والتفريق في مثل هذا بالصفات فيه نظر .

وقال بعض الأصحاب وغيرهم في النهي عن ذلك إنما هو تحذير من الفتنة والعجب والخيلاء . مع أن ابن قتيبة قال : إنما معناه ما تفعله الأعاجم والأمراء في زماننا هذا أن يجلس ، والناس قيام بين يديه تكبرا وعجبا . ولذا قال ابن مسعود في من يمشي الناس خلفه إكراما : إنها ذلة للتابع وفتنة للمتبوع .

ورد الإمام المحقق ابن القيم في حاشية السنن على هذا القول بأن سياق حديث معاوية يدل على خلاف ذلك ، وإنما يدل على أنه كره القيام له لما خرج تعظيما ولأن هذا لا يقال له القيام للرجل وإنما هو القيام على رأس الرجل أو عند الرجل .

قال : والقيام ينقسم إلى ثلاث مراتب ، قيام على رأس الرجل ، وهو فعل الجبابرة ، وقيام إليه عند قدومه ولا بأس به ، وقيام له عند رؤيته ، وهو المتنازع فيه انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية