الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                والمنتسبون إلى السنة من الحنابلة وغيرهم الذين جعلوا لفظ التأويل يعم القسمين يتمسكون بما يجدونه في كلام الأئمة في المتشابه مثل قول أحمد في رواية حنبل ولا كيف ولا معنى ظنوا أن مراده . أنا لا نعرف معناها . وكلام أحمد صريح بخلاف هذا في غير موضع وقد بين أنه إنما ينكر تأويلات الجهمية ونحوهم الذين يتأولون القرآن على غير تأويله وصنف كتابه في " الرد على الزنادقة والجهمية " فيما أنكرته من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله فأنكر عليهم تأويل القرآن [ ص: 364 ] على غير مراد الله ورسوله وهم إذا تأولوه يقولون : معنى هذه الآية كذا والمكيفون يثبتون كيفية . يقولون : إنهم علموا كيفية ما أخبر به من صفات الرب . فنفى أحمد قول هؤلاء وقول هؤلاء : قول المكيفة الذين يدعون أنهم علموا الكيفية وقول المحرفة الذين يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون معناه كذا وكذا . وقد كتبت كلام أحمد بألفاظه - كما ذكره الخلال في كتاب السنة وكما ذكره من نقل كلام أحمد بإسناده في الكتب المصنفة في ذلك - في غير هذا الموضع . وبين أن لفظ التأويل في الآية إنما أريد به التأويل في لغة القرآن كقوله تعالى : { هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل } .

                وعن ابن عباس في قوله : { هل ينظرون إلا تأويله } تصديق ما وعد في القرآن وعن قتادة تأويله ثوابه وعن مجاهد جزاؤه وعن السدي عاقبته وعن ابن زيد حقيقته . قال بعضهم تأويله ما يئول إليه أمرهم من العذاب وورود النار . وقوله تعالى : { بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله } [ ص: 365 ] قال بعضهم تصديق ما وعدوا به من الوعيد والتأويل ما يئول إليه الأمر وعن الضحاك يعني عاقبة ما وعد الله في القرآن أنه كائن من الوعيد والتأويل ما يئول إليه الأمر . وقال الثعلبي : تفسيره . وليس بشيء . وقال الزجاج : لم يكن معهم علم تأويله . وقال يوسف الصديق عليه السلام { يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل } فجعل نفس سجود أبويه له تأويل رؤياه . وقال قبل هذا : { لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما } أي قبل أن يأتيكما التأويل . والمعنى لا يأتيكما طعام ترزقانه في المنام لما قال أحدهما : { إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا } . { إلا نبأتكما بتأويله } في اليقظة { قبل أن يأتيكما } الطعام هذا قول أكثر المفسرين وهو الصواب . وقال بعضهم لا يأتيكما طعام ترزقانه تطعمانه . وتأكلانه إلا نبأتكما بتأويله بتفسيره وألوانه أي طعام أكلتم وكم أكلتم ومتى أكلتم ؟ فقالوا : هذا فعل العرافين والكهنة فقال ما أنا بكاهن وإنما ذلك العلم مما يعلمني ربي . وهذا القول ليس بشيء فإنه قال : { إلا نبأتكما بتأويله } وقد قال أحدهما : { إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله } فطلبا منه تأويل ما رأياه وأخبرهما بتأويل ذاك ولم يكن تأويل الطعام في [ ص: 366 ] اليقظة ولا في القرآن أنه أخبرهما بما يرزقانه في اليقظة فكيف يقول قولا عاما : { لا يأتيكما طعام ترزقانه } وهذا الإخبار العام لا يقدر عليه إلا الله والأنبياء يخبرون ببعض ذلك لا يخبرون بكل هذا . وأيضا فصفة الطعام وقدره ليس تأويلا له . وأيضا فالله إنما أخبر أنه علمه تأويل الرؤيا قال يعقوب عليه السلام { وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث } وقال يوسف عليه السلام { رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث } وقال : { هذا تأويل رؤياي من قبل } ولما رأى الملك الرؤيا قال له الذي ادكر بعد أمة : { أنا أنبئكم بتأويله فأرسلوني } والملك قال : { يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون } { قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين } . فهذا لفظ التأويل في مواضع متعددة كلها بمعنى واحد .

                وقال تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } قال مجاهد وقتادة : جزاء وثوابا وقال السدي وابن زيد وابن قتيبة والزجاج : عاقبة . وعن ابن زيد أيضا : تصديقا . كقوله : { هذا تأويل رؤياي من قبل } وكل هذه الأقوال صحيحة والمعنى واحد وهذا تفسير [ ص: 367 ] السلف أجمعين ومنه قوله : { سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا } فلما ذكر له ما ذكر قال : { ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا } . وهذا تأويل فعله ليس هو تأويل قوله والمراد به عاقبة هذه الأفعال بما يئول إليه ما فعلته : من مصلحة أهل السفينة ومصلحة أبوي الغلام ومصلحة أهل الجدار . وأما قول بعضهم : ردكم إلى الله والرسول أحسن من تأويلكم فهذا قد ذكره الزجاج عن بعضهم وهذا من جنس ما ذكر في تلك الآية في لفظ التأويل وهو تفسير له بالاصطلاح الحادث لا بلغة القرآن فأما قدماء المفسرين فلفظ التأويل والتفسير عندهم سواء كما يقول ابن جرير : القول في تأويل هذه الآية . أي في تفسيرها . ولما كان هذا معنى التأويل عند مجاهد وهو إمام التفسير جعل الوقف على قوله : { والراسخون في العلم } فإن الراسخين في العلم يعلمون تفسيره وهذا القول اختيار ابن قتيبة وغيره من أهل السنة . وكان ابن قتيبة يميل إلى مذهب أحمد وإسحاق وقد بسط الكلام على ذلك في كتابه في " المشكل " وغيره .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية