الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 336 ] قوله ( وإن مات وعليه صوم ، أو حج ، أو اعتكاف منذور : فعله عنه وليه ) إذا مات وعليه صوم منذور فعله عنه وليه على الصحيح من المذهب ، نص عليه ، وعليه الأصحاب . قاله في الفروع وغيره ، وهو من المفردات ، واختار ابن عقيل : أن صوم النذر عن الميت كقضاء رمضان على ما سبق ، وقدمه في الفروع . فائدتان . إحداهما : يجوز صوم جماعة عنه في يوم واحد ، ويجزئ عدتهم من الأيام على الصحيح ، اختاره المجد في شرحه . قال في الفروع : هو أظهر ، وقدمه الزركشي ، وحكاه الإمام أحمد عن طاوس ، وحمل المجد ما نقل عن أحمد على صوم شرط التتابع ، وتعليل القاضي يدل عليه ، ونقل أبو طالب : يصوم واحد . قال القاضي في الخلاف : فمع الاشتراك كالحجة المنذورة تصح النيابة فيها من واحد لا من جماعة . الثانية : يجوز أن يصوم غير الولي بإذنه وبدونه . على الصحيح من المذهب ، قدمه في الفروع ، وقال : جزم به القاضي والأكثر [ منهم المصنف في المغني ] ، وقيل : لا يصح إلا بإذنه ، وذكر المجد : أنه ظاهر نقل حرب : يصوم أقرب الناس إليه : ابنه أو غيره . قال في الفروع : فيتوجه يلزم من الاقتصار على النص : أنه لا يصام بإذنه .

فائدتان . الأولى : قوله ( فعله عنه وليه ) . يستحب للولي فعله ، واعلم أنه إذا كان له تركة وجب فعله ، فيستحب للولي الصوم . وله أن يدفع [ ص: 337 ] إلى من يصوم عنه من تركته عن كل يوم مسكينا وجزم به في القاعدة الرابعة والأربعين بعد المائة ، فإن لم يكن له تركة لم يلزمه شيء ، وقال في المستوعب وغيره : ومع امتناع الولي من الصوم يجب إطعام مسكين من مال الميت عن كل يوم ، ومع صوم الورثة لا يجب . وجزم المصنف في مسألة من نذر صوما يعجز عنه : أن صوم النذر لا إطعام فيه بعد الموت ، بخلاف رمضان ، قال في الفروع : ولم أجد في كلامه خلافه . وقال المجد : لم يذكر القاضي في المجرد أن الورثة إذا امتنعوا يلزمهم استنابة ولا إطعام . الثانية : لا كفارة مع الصوم عنه ، أو الإطعام على الصحيح من المذهب ، واختار الشيخ تقي الدين : أن الصوم عنه بدل مجزئ عنه بلا كفارة ، وأوجب في المستوعب الكفارة . قال : كما لو عين بنذره صوم شهر فلم يصمه فإنه يجب القضاء والكفارة . قال في الرعاية : إن لم يقضه عنه ورثته أو غيرهم : أطعم عنه من تركته لكل يوم فقير مع كفارة يمين . وإن قضى كفته كفارة يمين ، وعنه مع العذر المتصل بالموت .

تنبيهات . الأول : هذا التفريع كله فيمن أمكنه صوم ما نذره فلم يصمه حتى مات ، فأما إن أمكنه صوم بعض ما نذره : قضى عنه ما أمكنه صومه فقط ، قدمه في الفروع ، قال المجد في شرحه : ذكره القاضي وبعض أصحابنا ، وذكره ابن عقيل أيضا . وذكر القاضي في مسألة الصوم عن الميت : أن من نذر صوم شهر وهو مريض ، ومات قبل القدرة عليه : يثبت الصيام في ذمته ، ولا يعتبر إمكان أدائه ، ويخير وليه بين أن يصوم عنه ، أو ينفق على من يصوم عنه . [ ص: 338 ]

واختار المجد : أنه يقضي عن الميت ما تعذر فعله بالمرض دون المتعذر بالموت ، وقال في القاعدة التاسعة عشرة : وأما المنذورات : ففي اشتراط التمكن لها من الأداء وجهان ، فعلى القول بالقضاء : هل يقضي الصائم الفائت بالمرض خاصة ، أو الفائت بالمرض والموت ؟ على وجهين . الثاني : هذا كله إذا كان النذر في الذمة ، فأما إن نذر صوم شهر بعينه فمات قبل دخوله : لم يصم ولم يقض عنه . قال المجد في شرحه : وهذا مذهب سائر الأئمة ، ولا أعلم فيه خلافا . وإن مات في أثنائه سقط باقيه ، فإن لم يصمه لمرض حتى انقضى ، ثم مات في مرضه : فعلى الخلاف السابق فيما إذا كان في الذمة هذه أحكام من مات وعليه صوم نذر ، وأما من مات وعليه حج منذور ، فالصحيح من المذهب : أن وليه يفعله عنه ، ويصح منه ، وعليه أكثر الأصحاب ، ونص عليه الإمام أحمد ، وفي الرعاية قول لا يصح . قال في الفروع : كذا قال .

فوائد . إحداها : لا يعتبر تمكنه من الحج في حياته على الصحيح من المذهب ، قدمه في الفروع ، والمجد في شرحه ، وقال : هو ظاهر كلامه . وهو أصح ، وقال القاضي في خلافه في الفقير إذا نذر الحج ، ولم يملك بعد النذر زادا ولا راحلة حتى مات لا يقضى عنه ، كالحج الواجب بأصل الشرع ، قال المجد : وعليه قياس كل صورة مات قبل التمكن ، كالذي يموت قبل مجيء الوقت ، أو عند خوف الطريق ، قال : وهذه المسألة شبيهة بمسألة أمن الطريق وسعة الوقت : هل هو في حجة الفرض شرط للوجوب في الذمة ، أو للزوم الأداء ؟ . الثانية : حكم العمرة المنذورة حكم الحج المنذور إذا مات وهي عليه . [ ص: 339 ] الثالثة : يجوز أن يحج عنه حجة الإسلام بإذن وليه . بلا نزاع ، وبغير إذنه على الصحيح من المذهب ، واختاره ابن عقيل والمجد . وهو ظاهر ما قدمه في الفروع وقيل : لا يصح بغير إذنه ، اختاره أبو الخطاب في الانتصار . ويأتي ذلك في كتاب الحج ، فعلى المذهب : له الرجوع بما أنفق على التركة . كذا لو أعتق عنه في نذر أو أطعم عنه في كفارة ، إذا قلنا : يصح ، ذكره في القاعدة الخامسة والسبعين في ضمن تعليل القاضي ، وأما إذا مات وعليه اعتكاف منذور ، فالصحيح من المذهب : أنه يفعل عنه . نقله الجماعة عن الإمام أحمد ، وعليه الأصحاب ، ونقل ابن إبراهيم وغيره : ينبغي لأهله أن يعتكفوا عنه ، وحكى في الرعاية قولا لا يصح أن يعتكف عنه . قال في الفروع : فيتوجه على هذا أن يخرج عنه كفارة يمين ، ويحتمل أن يطعم عنه لكل يوم مسكين . انتهى . فعلى المذهب : إن لم يمكنه فعله حتى مات ، فالخلاف السابق كالصوم ، وقيل : يقضي . وقيل : لا ، فعليه يسقط إلى غير بدل .

تنبيه : اعلم أن في نسخة المصنف كما حكيته في المتن هكذا " وإن مات وعليه صوم ، أو حج ، أو اعتكاف منذور " فلفظة " منذور " مؤخرة عن الاعتكاف ، وهكذا في نسخ قرئت على المصنف ، فغير ذلك بعض أصحاب المصنف المأذون له بالإصلاح ، فقال " وإن مات وعليه صوم منذور أو حج أو اعتكاف فعله عنه وليه " لأن تأخير لفظة " منذور " لا يخلو من حالين : إما أن يعيده إلى الثلاثة ، أو إلى الأخير ، وهو الاعتكاف ، وعلى كليهما يحصل في الكلام خلل ; لأنه لو عاد إلى الاعتكاف فقط بقي الصوم مطلقا . والولي لا يفعل الواجب بالشرع من الصوم ، وإن عاد إلى الثلاثة ، بقي الحج مشروطا بكونه منذورا ، ولا يشترط ذلك ; لأن الولي يفعل الحج الواجب بالشرع أيضا ، فلذلك غير . [ ص: 340 ] ولا يقال : إذا قدمنا لفظة " منذور " على الحج والاعتكاف ، يبقى الاعتكاف مطلقا ; لأنا نقول : لا يكون الاعتكاف واجبا إلا بالنذر . قلت : والذي يظهر أن كلام المصنف على [ صفة ] ما قاله من غير تغيير أولى ، ولا يرد على المصنف شيء مما ذكر ; لأن مراده هنا النيابة في المنذورات لا غير ، ولذلك ذكر الصلاة المنذورة ، والصوم المنذور ، فكذا الاعتكاف والحج ، وأما كون الحج إذا كان واجبا بالشرع يفعل : فهذا مسلم وقد صرح به المصنف في كتاب الحج ، فقال : ومن وجب عليه الحج فتوفي قبله : أخرج عنه من جميع ماله حجة وعمرة ، وهذا واضح ، ولذلك ذكر غالب الأصحاب مثل ما قال المصنف هنا ، فيذكرون الصوم والحج والاعتكاف المنذورات ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية