الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما حكم التدبير فنوعان نوع يرجع إلى حياة المدبر ، ونوع يرجع إلى ما بعد موته أما الذي يرجع إلى حال حياة المدبر فهو ثبوت حق الحرية للمدبر إذا كان التدبير مطلقا ، وهذا عندنا ، وعند الشافعي لا حكم له في حال حياة المدبر رأسا ، فلا يثبت حقيقة الحرية ولا حقها ، بل حكمه ثبوت حقيقة الحرية بعد الموت مقصورا عليه .

                                                                                                                                وعلى هذا يبنى بيع المدبر المطلق أنه لا يجوز عندنا ، وعنده جائز ، ويجوز بيع المدبر المقيد بالإجماع .

                                                                                                                                احتج الشافعي بما روي عن عطاء أنه قال : { دبر رجل عبده ، فاحتاج فباعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بثمانمائة درهم } وأدنى درجات فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الجواز ، ولأن التدبير تعليق العتق بالشرط ، وإنه لا يمنع جواز البيع كالتعليق بسائر الشروط من دخول الدار ، وكلام زيد وغير ذلك وكالتدبير المقيد ، ولأن فيه معنى الوصية ، وذلك لا يمنع جواز البيع كما إذا أوصى بعتق عبده ثم باعه ، ولنا ما روي عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { المدبر لا يباع ولا يوهب وهو حر من ثلث المال } ، وهذا نص في الباب ، وعن أبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله الأنصاري { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المدبر } ومطلق النهي يحمل على التحريم وروي عن عمر وعثمان وزيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم مثل مذهبنا ، وهو قول جماعة من التابعين مثل شريح ومسروق وسعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وأبي جعفر محمد بن علي ومحمد بن سيرين وعمر بن عبد العزيز والشعبي والحسن البصري والزهري وسعيد بن جبير وسالم بن عبد الله وطاوس ومجاهد وقتادة حتى قال أبو حنيفة لولا قول هؤلاء الأجلة ; لقلت بجواز بيع المدبر لما دل عليه من النظر ، ولنا لإثبات حق [ ص: 121 ] الحرية ضرورة الإجماع ، ودلالة غرض المدبر ، أما ضرورة الإجماع فهي أن الحرية تثبت بعد الموت بالإجماع ، والحرية لا بد لها من سبب ولا سبب ههنا سوى الكلام السابق ، فلا يخلو إما أن يجعل سببا للحال ، وإما أن يجعل سببا بعد الشرط ، ولا سبيل إلى الثاني ; لأنه ليس من أهل مباشرة السبب فتعين أن يكون سببا عند وجوده .

                                                                                                                                فكان الكلام السابق سببا في الحال لثبوت الحرية بعد الموت ، ولسنا نعني ثبوت حق الحرية للمدبر إلا هذا ، وهذا يمنع جواز البيع ; لأن البيع إبطال السببية إذ لا تثبت الحرية عند الموت بعد البيع .

                                                                                                                                وأما دلالة الغرض فهو أن غرض المدبر من التدبير أن يسلم الحرية للمدبر عند الموت إما تقربا إلى الله عز وجل بالإعتاق ; لإعتاق رقبته من النار كما نطق به الحديث ، وإما حقا لخدمته القديمة مع بقاء منافعه على ملكه في حياته لحاجته إليها ، ولا طريق لتحصيل الغرضين إلا بجعل التدبير سببا في الحال لثبوت الحرية بعد الموت ، إذ لو ثبتت الحرية في الحال لفات غرضه في الانتفاع به ، ولو لم ينعقد شيء رأسا لفات غرضه في العتق ; لجواز أن يبيعه لشدة غضب أو غير ذلك .

                                                                                                                                فكان انعقاده سببا في الحال ، وتأخر الحرية إلى ما بعد الموت طريق إحراز الغرضين ، فثبت ذلك بدلالة الحال ، فيتقيد الكلام به إذ الكلام يتقيد بدلالة الغرض ، فإن قيل : هذا مناقض لأصلكم ; لأن التدبير تعليق العتق بالشرط ، ومن أصلكم أن التعليقات ليست أسبابا للحال وإنما تصير أسبابا عند وجود شروطها ، وعلى هذا بنيتم تعليق الطلاق والعتاق بالملك وسببه ، وههنا جعلتم التدبير سببا لثبوت الحرية للحال ، وهذا مناقضة في الأصل ، والتناقض في الأصل دليل فساد الفرع .

                                                                                                                                فالجواب : إن هذا أصلنا فيما يمكن اعتباره سببا عند وجود الشرط ، وفيما لم يرد المتكلم جعله سببا في الحال ، وفي التعليق بسائر الشروط ، وأمكن اعتباره سببا عند وجود الشرط ، وههنا لا يمكن لما بينا ، وكذا في التعليق بسائر الشروط أراد المتكلم كونه سببا عند الشرط ، وههنا أراد كونه سببا في الحال لما قلنا ، فتعين سببا للحال لثبوت الحرية في الثاني .

                                                                                                                                وأما حديث عطاء فيحتمل أن ذلك كان تدبيرا مقيدا ، وقوله باع حكاية فعل فلا عموم له ، ويحتمل أن يكون معنى قوله باع أي أجر إذ الإجارة تسمى بيعا بلغة أهل المدينة ، وهكذا روى محمد بإسناده { أن النبي صلى الله عليه وسلم باع خدمة مدبر ولم يبع رقبته } ويحتمل أنه كان ذلك في ابتداء الإسلام حين كان بيع الحر مشروعا على ما روي { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم باع رجلا بدينه يقال له سرق } ثم صار منسوخا بنسخ بيع الحر لثبوت حق الحرية في المدبر إلحاقا للحق بالحقيقة في باب الحرمات .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية