الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        من عليه قصاص إذا قتله أجنبي ، لزمه القصاص كما سبق ، ويكون هذا القصاص لورثته ، لا لمن كان يستحق القصاص عليه ، قال البغوي : فلو عفا ورثته عن القصاص على الدية ، فالدية للورثة على الصحيح .

                                                                                                                                                                        وقيل : لمن له القصاص ، كما إذا قتل المرهون تكون قيمته مرهونة ، وهو ضعيف ، وأما إذا بادر أحد ابني المقتول الحائزين ، فقتل الجاني بغير إذن الآخر ، فينظر أوقع ذلك قبل عفو أخيه أم بعده ؟ الحالة الأولى : إذا قتله قبل العفو ، ففي وجوب القصاص عليه ، قولان .

                                                                                                                                                                        أظهرهما : لا يجب ، لأن له حقا في قتله ، فصار شبهة ، والقولان فيما إذا قتله عالما بالتحريم ، فإن جهل ، فلا قصاص بلا خلاف ، الحالة الثانية : أن يقتله بعد العفو ، فإن علم العفو ، وحكم الحاكم بسقوط القصاص عن الجاني ، لزمه القصاص قطعا ، وإن لم يحكم به ، لزمه أيضا على المذهب .

                                                                                                                                                                        وقيل : لا ، لشبهة اختلاف العلماء ، وإن جهله ، فإن قلنا : لا قصاص إذا علمه ، فهنا أولى ، وإلا فوجهان ، ولو قتله العافي ، أو عفوا ، ثم قتله أحدهما ، لزمه القصاص قطعا .

                                                                                                                                                                        التفريع على الحالة الأولى ، فإذا أوجبنا القصاص على الابن المبادر ، وجبت دية الأب في تركة الجاني ، وكانت بينهما نصفين ، وإن عفا مجانا ، أو أطلق العفو ، وقلنا : العفو المطلق لا يوجب الدية ، أخذها الأخوان .

                                                                                                                                                                        وإن عفا على الدية ، أو أطلق وجعلنا المطلق موجبا للدية ، فللأخ الذي لم يقتل نصف الدية في تركة الجاني ، وللمبادر النصف وعليه دية الجاني بتمامها ، ويقع الكلام في التقاص ، وقد يصير النصف بالنصف قصاصا ، ويأخذ وارث الجاني النصف الآخر ، [ ص: 217 ] وقد يختلف القدر بأن يكون المقتول أولا رجلا ، والجاني امرأة ، وإذا قلنا بالأظهر ، ولم نوجب القصاص على المبادر ، فلأخيه نصف الدية ، وممن يأخذها ؟ قولان .

                                                                                                                                                                        أحدهما : من أخيه المبادر ، وأظهرهما : من تركة الجاني .

                                                                                                                                                                        فإذا قلنا : يأخذ من أخيه ، فأبرأ أخاه ، برئ ، وإن أبرأ وارث الجاني ، لم يصح ، لأنه لا حق له عليه ، ولو أبرأ وارث الجاني المبادر عن الدية ، لم يسقط النصف الثابت عليه لأخيه .

                                                                                                                                                                        وأما النصف الثابت للوارث ، فيبنى على التقاص في الديتين ، هل يحصل بنفس الوجوب ؟ إن قلنا : نعم ، فالعفو لغو ، وبمجرد وجوبهما ، سقطا ، وإن قلنا : لا يحصل حتى يتراضيا ، صح الإبراء ، وسقط ما ثبت للوارث على المبادر .

                                                                                                                                                                        ويبقى للمبادر النصف في تركة الجاني ، وإن قلنا : حق الذي لم يقتل في تركة الجاني لا على أخيه ، فلوارث الجاني على المبادر دية تامة ، وللمبادر نصف الدية في تركة الجاني ، فيقع النصف تقاصا ، ويأخذ وارث الجاني منه النصف الآخر ، فلو أبرأ الذي لم يقتل أخاه ، فإبراؤه لغو إذ لا شيء له عليه .

                                                                                                                                                                        ولو أبرأ وارث الجاني ، صح ، ولو أسقط وارث الجاني الدية عن المبادر ، فإن قلنا : يقع التقاص بنفس الوجوب ، فقد سقط النصف بالنصف ، ويؤثر الإسقاط في النصف الآخر ، فلا يبقى لأحدهما على الآخر شيء ، وإن قلنا : لا يقع التقاص إلا بالتراضي ، سقط حق الوارث بإسقاطه ، وبقي للمبادر نصف الدية في تركة الجاني .

                                                                                                                                                                        وإذا كان المبادر جاهلا بالتحريم ، وجبت الدية بقتله ، وهل يكون في ماله لقصده القتل ، أم على عاقلته ، لأن الجهل كالخطأ ؟ قولان .

                                                                                                                                                                        فإن قلنا : في ماله ، فالابن الذي لم يقتل يأخذ نصف الدية من أخيه ، أو من تركة الجاني ، فيه القولان ، وإن قلنا : على العاقلة ، أخذ الابنان الدية من تركة الجاني في الحال ، ووارث الجاني يأخذ ديته من عاقلة المبادر ، كما تؤخذ الدية من العواقل ، هذا تفريع الحالة الأولى .

                                                                                                                                                                        أما إذا قتله بعد عفو أخيه ، فإن أوجبنا القصاص ، واقتص وارث [ ص: 218 ] الجاني ، فلورثة المقتص منه نصف الدية في تركة الجاني ، وأما العافي ، فلا شيء له إن عفا مجانا ، وإن عفا على نصف الدية ، عاد الخلاف في أنه ممن يأخذه .

                                                                                                                                                                        وإن لم يقتص منه الوارث ، بل عفا ، نظر في حال العفوين وما يقتضيانه من وجوب المال وعدمه ، وإن لم نوجب القصاص ، فإن كان الآخر عفا على الدية ، أو مطلقا ، وقلنا : المطلق يقتضي الدية ، فللابنين دية أبيهما ، وعلى المبادر دية الجاني ، فيقع ما له وما عليه في التقاص ، ويأخذ الآخر النصف من أخيه ، أو من تركة الجاني على الخلاف .

                                                                                                                                                                        وإن عفا مجانا أو مطلقا وقلنا : لا يوجب المال ، فلا شيء للعافي ، وللمبادر نصف دية أبيه ، وعليه جميع دية الجاني ، وما ذكرناه في المسألة من صور مجيء الخلاف في التقاص كذا أطلقه الأصحاب وفيه نظر .

                                                                                                                                                                        لأن شرط التقاص استواء الديتين في الجنس والصفة حتى لا يجري إذا كان أحدهما مؤجلا والآخر حالا واختلف أجلهما ، وهنا أحد الديتين في ذمة الابن المبادر لورثة الجاني ، والآخر يتعلق بتركة الجاني ولا يثبت في ذمة أحد ، وهذا الاختلاف أشد من اختلاف قدر الأجل .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية