الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وأما زيارة قبور الأنبياء والصالحين لأجل طلب الحاجات منهم أو دعائهم والإقسام بهم على الله أو ظن أن الدعاء أو الصلاة عند قبورهم أفضل منه في المساجد والبيوت فهذا ضلال وشرك وبدعة باتفاق أئمة المسلمين ولم يكن أحد من الصحابة يفعل ذلك ولا كانوا إذا سلموا على النبي صلى الله عليه وسلم يقفون يدعون لأنفسهم ولهذا كره ذلك مالك وغيره من العلماء وقالوا إنه من البدع التي لم يفعلها السلف واتفق العلماء الأربعة وغيرهم من السلف على أنه إذا أراد أن يدعو يستقبل القبلة ولا يستقبل قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأما إذا سلم عليه فأكثرهم قالوا : يستقبل القبر قاله مالك والشافعي وأحمد وقال أبو حنيفة : بل يستقبل القبلة أيضا ويكون القبر عن يساره وقيل : بل يستدبر القبلة . ومما يبين هذا الأصل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر هو وأبو بكر ذهبا إلى الغار الذي بجبل ثور ولم يكن على طريقهما [ ص: 472 ] بالمدينة فإنه من ناحية اليمن والمدينة من ناحية الشام ولكن اختبآ فيه ثلاثا لينقطع خبرهما عن المشركين فلا يعرفون أين ذهبا فإن المشركين كانوا طالبين لهما وقد بذلوا في كل واحد منهما ديته لمن يأتي به وكانوا يقصدون منع النبي صلى الله عليه وسلم أن يصل إلى أصحابه بالمدينة وأن لا يخرج من مكة بل لما عجزوا عن قتله أرادوا حبسه بمكة فلو سلك الطريق ابتداء لأدركوه فأقام بالغار ثلاثا لأجل ذلك فلو أراد المسافر من مكة إلى المدينة أن يذهب إلى الغار ثم يرجع لم يكن ذلك مستحبا بل مكروها والنبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة سلك طريق الساحل وهي طويلة وفيها دورة وأما في عمره وحجته فكان يسلك الوسط وهو أقرب إلى مكة فسلك في الهجرة طريق الساحل ; لأنها كانت أبعد عن قصد المشركين فإن الطريق الوسطى كانت أقرب إلى المدينة فيظنون أنه سلكها كما كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها .

                وهو صلى الله عليه وآله وسلم لما قسم غنائم حنين بالجعرانة اعتمر منها ولما صده المشركون عن مكة حل بالحديبية وكان قد أنشأ الإحرام بالعمرة من ميقات المدينة ذي الحليفة ولما اعتمر من العام القابل عمرة القضية اعتمر من ذي الحليفة ولم يدخل الكعبة في عمره ولا حجته وإنما دخلها عام الفتح وكان بها صور مصورة فلم يدخلها [ ص: 473 ] حتى محيت تلك الصور وصلى بها ركعتين وصلى يوم الفتح ثماني ركعات وقت الضحى كما روت ذلك أم هانئ ولم يكن يقصد الصلاة وقت الضحى إلا لسبب مثل أن يقدم من سفر فيدخل المسجد فيصلي فيه ركعتين ومثل أن يشغله نوم أو مرض عن قيام الليل فيصلي بالنهار ثنتي عشرة ركعة وكان يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة فصلى ثنتي عشرة ركعة شفعا لفوات وقت الوتر فإنه صلى الله عليه وسلم قال : { المغرب وتر صلاة النهار فأوتروا صلاة الليل } وقال : { اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا } وقال : { صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خفت الصبح فأوتر بركعة } . والمأثور عن السلف أنهم إذا ناموا عن الوتر كانوا يوترون قبل صلاة الفجر ولا يؤخرونه إلى ما بعد الصلاة وفي الصحيحين { عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحة الضحى قط وإني لأسبحها وإن كان ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم } وقد ثبت عنه { في الصحيح أنه أوصى بركعتي الضحى لأبي هريرة ولأبي الدرداء } وفيها أحاديث لكن صلاته ثماني ركعات يوم الفتح جعلها بعض العلماء صلاة الضحى .

                وقال آخرون : لم يصلها إلا يوم الفتح فعلم أنه صلاها لأجل [ ص: 474 ] الفتح وكانوا يستحبون عند فتح مدينة أن يصلي الإمام ثماني ركعات شكرا لله ويسمونها صلاة الفتح قالوا : لأن الاتباع يعتبر فيه القصد والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد الصلاة لأجل الوقت ولو قصد ذلك لصلى كل يوم أو غالب الأيام كما كان يصلي ركعتي الفجر كل يوم وكذلك كان يصلي بعد الظهر ركعتين وقبلها ركعتين أو أربعا ولما فاتته الركعتان بعد الظهر قضاهما بعد العصر وهو صلى الله عليه وسلم لما نام هو وأصحابه عن صلاة الفجر في غزوة خيبر فصلوا بعد طلوع الشمس ركعتين ثم ركعتين لم يقل أحد إن هذه الصلاة في هذا الوقت سنة دائما ; لأنهم إنما صلوها قضاء لكونهم ناموا عن الصلاة ولما فاتته العصر في بعض أيام الخندق فصلاها بعدما غربت الشمس وروي أن الظهر فاتته أيضا فصلى الظهر ثم العصر ثم المغرب لم يقل أحد إنه يستحب أن يصلى بين العشاءين إحدى عشرة ركعة لأن ذلك كان قضاء بل ولا نقل عنه أحد أنه خص ما بين العشاءين بصلاة .

                وقوله تعالى : { ناشئة الليل } عند أكثر العلماء هو إذا قام الرجل بعد نوم ليس هو أول الليل وهذا هو الصواب ; لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هكذا كان يصلي والأحاديث بذلك متواترة عنه كان يقوم بعد النوم لم يكن يقوم بين العشاءين .

                [ ص: 475 ] وكذلك أكله ما كان يجد من الطعام ولبسه الذي يوجد بمدينته طيبة مخلوقا فيها ومجلوبا إليها من اليمن وغيرها لأنه هو الذي يسره الله له فأكله التمر وخبزه الشعير وفاكهته الرطب والبطيخ الأخضر والقثاء ولبس ثياب اليمن لأن ذلك هو كان أيسر في بلده من الطعام والثياب لا لخصوص ذلك فمن كان ببلد آخر وقوتهم البر والذرة وفاكهتهم العنب والرمان ونحو ذلك وثيابهم مما ينسج بغير اليمن القز لم يكن إذا قصد أن يتكلف من القوت والفاكهة واللباس ما ليس في بلده - بل يتعسر عليهم - متبعا للرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان ذلك الذي يتكلفه تمرا أو رطبا أو خبزا شعيرا .

                فعلم أنه لا بد في المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم من اعتبار القصد والنية : { فإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى } فعلم أن الذي عليه جمهور الصحابة وأكابرهم هو الصحيح ومع هذا فابن عمر رضي الله عنهما لم يكن يقصد أن يصلي إلا في مكان صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقصد الصلاة في موضع نزوله ومقامه ولا كان أحد من الصحابة يذهب إلى الغار المذكور في القرآن للزيارة والصلاة فيه - وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أقاما به ثلاثا يصلون فيه الصلوات الخمس - ولا كانوا أيضا يذهبون إلى حراء وهو المكان الذي كان يتعبد فيه قبل النبوة [ ص: 476 ] وفيه نزل عليه الوحي أولا وكان هذا مكان يتعبدون فيه قبل الإسلام فإن حراء أعلى جبل كان هناك فلما جاء الإسلام ذهب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة مرات بعد أن أقام بها قبل الهجرة بضع عشرة سنة ومع هذا فلم يكن هو ولا أصحابه يذهبون إلى حراء .

                ولما حج النبي صلى الله عليه وسلم استلم الركنين اليمانيين ولم يستلم الشاميين ; لأنهما لم يبنيا على قواعد إبراهيم فإن أكثر الحجر من البيت والحجر الأسود استلمه وقبله واليماني استلمه ولم يقبله وصلى بمقام إبراهيم ولم يستلمه ولم يقبله فدل ذلك على أن التمسح بحيطان الكعبة غير الركنين اليمانيين وتقبيل شيء منها غير الحجر الأسود ليس بسنة ودل على أن استلام مقام إبراهيم وتقبيله ليس بسنة وإذا كان هذا نفس الكعبة ونفس مقام إبراهيم بها فمعلوم أن جميع المساجد حرمتها دون الكعبة وأن مقام إبراهيم بالشام وغيرها وسائر مقامات الأنبياء دون المقام الذي قال الله فيه : { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } فعلم أن سائر المقامات لا تقصد للصلاة فيها كما لا يحج إلى سائر المشاهد ولا يتمسح بها ولا يقبل شيء من مقامات الأنبياء ولا المساجد ولا الصخرة ولا غيرها ولا يقبل ما على وجه الأرض إلا الحجر الأسود . [ ص: 477 ] وأيضا فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يصل بمسجد بمكة إلا المسجد الحرام ولم يأت للعبادات إلا المشاعر : منى ومزدلفة وعرفة فلهذا كان أئمة العلماء على أنه لا يستحب أن يقصد مسجدا بمكة للصلاة غير المسجد الحرام ولا تقصد بقعة للزيارة غير المشاعر التي قصدها رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا كان هذا في آثارهم فكيف بالمقابر التي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من اتخذها مساجد وأخبر أنهم شرار الخلق عند الله يوم القيامة .

                ودين الإسلام أنه لا تقصد بقعة للصلاة إلا أن تكون مسجدا فقط ولهذا مشاعر الحج غير المسجد الحرام تقصد للنسك لا للصلاة فلا صلاة بعرفة وإنما صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الظهر والعصر يوم عرفة بعرنة خطب بها ثم صلى ثم بعد الصلاة ذهب إلى عرفات فوقف بها وكذلك يذكر الله ويدعى بعرفات وبمزدلفة على قزح وبالصفا والمروة وبين الجمرات وعند الرمي ولا تقصد هذه البقاع للصلاة . وأما غير المساجد ومشاعر الحج فلا تقصد بقعة لا للصلاة ولا للذكر ولا للدعاء بل يصلي المسلم حيث أدركته الصلاة إلا حيث نهي ويذكر الله ويدعوه حيث تيسر من غير قصد تخصيص بقعة بذلك وإذا اتخذ بقعة لذلك كالمشاهد نهي عن ذلك كما نهي عن الصلاة في المقبرة إلا ما يفعله الرجل عند السلام على الميت من [ ص: 478 ] الدعاء له وللمسلمين كما يفعل مثل ذلك في الصلاة على الجنازة فإن زيارة قبر المؤمن من جنس الصلاة على جنازته يفعل في هذا من جنس ما يفعل في هذا ويقصد بالدعاء هنا ما يقصد بالدعاء هنا .

                ومما يشبه هذا أن الأنصار بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة بالوادي الذي وراء جمرة العقبة ; لأنه مكان منخفض قريب من منى يستر من فيه فإن السبعين الأنصار كانوا قد حجوا مع قومهم المشركين وما زال الناس يحجون إلى مكة قبل الإسلام وبعده فجاءوا مع قومهم إلى منى ; لأجل الحج ثم ذهبوا بالليل إلى ذلك المكان لقربه وستره لا لفضيلة فيه ولم يقصدوه لفضيلة تخصه بعينه . ولهذا لما حج النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه لم يذهبوا إليه ولا زاروه وقد بنى هناك مسجدا وهو محدث وكل مسجد بمكة وما حولها غير المسجد الحرام فهو محدث ومنى نفسها لم يكن بها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مسجد مبني ولكن قال { منى مناخ لمن سبق } فنزل بها المسلمون وكان يصلي بالمسلمين بمنى وغير منى وكذلك خلفاؤه من بعده واجتماع الحجاج بمنى أكثر من اجتماعهم بغيرها فإنهم يقيمون بها أربعا وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يصلون بالناس بمنى وغير منى وكانوا يقصرون [ ص: 479 ] الصلاة بمنى وعرفة ومزدلفة ويجمعون بين الظهر والعصر بعرفة وبين المغرب والعشاء بمزدلفة ويصلي بصلاتهم جميع الحجاج من أهل مكة وغير أهل مكة وكلهم يقصرون الصلاة بالمشاعر وكلهم يجمعون بعرفة ومزدلفة .

                وقد تنازع العلماء في أهل مكة ونحوهم هل يقصرون أو يجمعون فقيل : لا يقصرون ولا يجمعون كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب الشافعي وأحمد وقيل يجمعون ولا يقصرون كما يقول ذلك أبو حنيفة وأحمد ومن وافقه من أصحابه وأصحاب الشافعي وقيل : يجمعون ويقصرون كما قال ذلك مالك وابن عيينة وإسحاق بن راهويه وبعض أصحاب أحمد وغيرهم وهذا هو الصواب بلا ريب فإنه الذي فعله أهل مكة خلف النبي صلى الله عليه وسلم بلا ريب ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم قط ولا أبو بكر ولا عمر بمنى ولا عرفة ولا مزدلفة يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر ولكن ثبت أن عمر قال ذلك في جوف مكة وكذلك في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ذلك في جوف مكة في غزوة الفتح وهذا من أقوى الأدلة على أن القصر مشروع لكل مسافر ولو كان سفره بريدا فإن عرفة من مكة بريد : أربع فراسخ ولم يصل النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه بمكة صلاة عيد ; بل ولا صلى في أسفاره قط صلاة [ ص: 480 ] العيد ولا صلى بهم في أسفاره صلاة جمعة يخطب ثم يصلي ركعتين بل كان يصلي يوم الجمعة في السفر ركعتين كما يصلي في سائر الأيام . وكذلك لما صلى بهم الظهر والعصر بعرفة صلى ركعتين كصلاته في سائر الأيام ولم ينقل أحد أنه جهر بالقراءة يوم الجمعة في السفر لا بعرفة ولا بغيرها ولا أنه خطب بغير عرفة يوم الجمعة في السفر فعلم أن الصواب ما عليه سلف الأمة وجماهيرها من الأئمة الأربعة وغيرهم من أن المسافر لا يصلي جمعة ولا غيرها وجمهورهم أيضا على أنه لا يصلي عيدا وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين وهذا هو الصواب أيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه لم يكونوا يصلون العيد إلا في المقام لا في السفر ولم يكن يصلي صلاة العيد إلا في مكان واحد مع الإمام يخرج بهم إلى الصحراء فيصلي هناك فيصلي المسلمون كلهم خلفه صلاة العيد كما يصلون الجمعة ولم يكن أحد من المسلمين يصلي صلاة عيد في مسجد قبيلته ولا بيته كما لم يكونوا يصلون جمعة في مساجد القبائل ولا كان أحد منهم بمكة يوم النحر يصلي صلاة عيد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه بل عيدهم بمنى بعد إفاضتهم من المشعر الحرام ورمي جمرة العقبة لهم كصلاة العيد لسائر أهل الأمصار يرمون ثم ينحرون وسائر أهل [ ص: 481 ] الأمصار يصلون ثم ينحرون والنبي صلى الله عليه وسلم لما أفاض من منى نزل بالمحصب فاختلف أصحابه هل التحصيب سنة لاختلافهم في قصده هل قصد النزول به أو نزل به لأنه كان أسمح لخروجه .

                وهذا مما يبين أن المقاصد كانت معتبرة عندهم في المتابعة . ولما اعتمر عمرة القضية وكانت مكة مع المشركين لم تفتح بعد وكان المشركون قد قالوا : يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب وقعد المشركون خلف قعيقعان وهو جبل المروة ينظرون إليهم فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا ثلاثة أشواط من الطواف ليرى المشركون جلدهم وقوتهم وروي أنه دعا لمن فعل ذلك ولم يرملوا بين الركنين ; لأن المشركين لم يكونوا يرونهم من ذلك الجانب فكان المقصود بالرمل إذ ذاك من جنس المقصود بالجهاد . فظن بعض المتقدمين أنه ليس من النسك لأنه فعل لقصد وزال ; لكن ثبت { في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما حجوا رملوا من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود فكملوا الرمل بين الركنين } وهذا قدر زائد على ما فعلوه في عمرة القضية وفعل ذلك في حجة الوداع مع الأمن العام فإنه لم يحج معه إلا مؤمن فدل ذلك على أن الرمل صار من سنة الحج فإنه فعل أولا لمقصود الجهاد ثم شرع نسكا كما روي في سعي هاجر وفي رمي الجمار وفي ذبح الكبش : أنه [ ص: 482 ] فعل أولا لمقصود ثم شرعه الله نسكا وعبادة لكن هذا يكون إذا شرع الله ذلك وأمر به وليس لأحد أن يشرع ما لم يشرعه الله كما لو قال قائل : أنا أستحب الطواف بالصخرة سبعا كما يطاف بالكعبة أو أستحب أن أتخذ من مقام موسى وعيسى مصلى كما أمر الله أن يتخذ من مقام إبراهيم مصلى ونحو ذلك لم يكن له ذلك لأن الله تعالى يختص ما يختصه من الأعيان والأفعال بأحكام تخصه يمتنع معها قياس غيره عليه إما لمعنى يختص به لا يوجد بغيره على قول أكثر أهل العلم وإما لمحض تخصيص المشيئة على قول بعضهم كما خص الكعبة بأن يحج إليها ويطاف بها وكما خص عرفات بالوقوف بها وكما خص منى برمي الجمار بها وكما خص الأشهر الحرم بتحريمها وكما خص شهر رمضان بصيامه وقيامه إلى أمثال ذلك .

                وإبراهيم ومحمد كل منهما خليل الله فإنه قد ثبت في الصحاح من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا } وقد ثبت في الصحيح : { أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم يا خير البرية قال : ذاك إبراهيم } . فإبراهيم أفضل الخلق بعد محمد صلى الله عليه وسلم . وقوله : " ذاك إبراهيم " تواضع منه فإنه قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال : { أنا سيد ولد آدم ولا فخر آدم فمن دونه تحت لوائي يوم القيامة ولا فخر } إلى غير [ ص: 483 ] ذلك من النصوص المبينة أنه أفضل الخلق وأكرمهم على ربه وإبراهيم هو الإمام الذي قال الله فيه : { إني جاعلك للناس إماما } وهو الأمة أي القدوة الذي قال الله فيه : { إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا } وهو الذي بوأه الله مكان البيت وأمره أن يؤذن في الناس بالحج إليه وقد حرم الله الحرم على لسانه وإسماعيل نبأه معه وهو الذبيح الذي بذل نفسه لله وصبر على المحنة كما بينا ذلك بالدلائل الكثيرة في غير هذا الموضع وأمه هاجر هي التي أطاعت الله ورسوله إبراهيم في مقامها مع ابنها في ذلك الوادي الذي لم يكن به أنيس كما قال الخليل : { ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم } . وكان لإبراهيم ولآل إبراهيم من محبة الله وعبادته والإيمان به وطاعته ما لم يكن لغيرهم فخصهم الله بأن جعل لبيته الذي بنوه له خصائص لا توجد لغيره وجعل ما جعله من أفعالهم قدوة للناس وعبادة يتبعونهم فيها ولا ريب أن الله شرع لإبراهيم السعي ورمي الجمار والوقوف بعرفات بعد ما كان من أمر هاجر وإسماعيل وقصة الذبح وغير ذلك ما كان كما شرع لمحمد الرمل في الطواف حيث أمره أن ينادي في الناس بحج البيت والحج مبناه على الذل والخضوع لله ولهذا خص باسم النسك و " النسك " في اللغة العبادة . [ ص: 484 ] قال الجوهري : النسك العبادة والناسك العابد وقد نسك وتنسك أي تعبد ونسك بالضم أي صار ناسكا ثم خص الحج باسم النسك لأنه أدخل في العبادة والذل لله من غيره ولهذا كان فيه من الأفعال ما لا يقصد فيه إلا مجرد الذل لله والعبادة له كالسعي ورمي الجمار .

                قال النبي صلى الله عليه وسلم { إنما جعل رمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة لإقامة ذكر الله } رواه الترمذي وخص بذلك الذبح الفداء أيضا دون مطلق الذبح ; لأن إراقة الدم لله أبلغ في الخضوع والعبادة له ولهذا كان من كان قبلنا لا يأكلون القربان ; بل تأتي نار من السماء فتأكله ولهذا قال تعالى : { الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين } . وكذلك كانوا إذا غنموا غنيمة جمعوها ثم جاءت النار فأكلتها ليكون قتالهم محضا لله لا للمغنم ويكون ذبحهم عبادة محضة لله لا لأجل أكلهم وأمة محمد صلى الله عليه وسلم وسع الله عليهم لكمال يقينهم وإخلاصهم وأنهم يقاتلون لله ولو أكلوا المغنم ويذبحون لله ولو أكلوا القربان ولهذا كان عباد الشياطين والأصنام يذبحون لها الذبائح أيضا فالذبح للمعبود غاية الذل والخضوع له . ولهذا لم يجز الذبح لغير الله ولا أن يسمى غير الله على الذبائح [ ص: 485 ] وحرم سبحانه ما ذبح على النصب وهو ما ذبح لغير الله وما سمي عليه غير اسم الله وإن قصد به اللحم لا القربان ولعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ذبح لغير الله ونهى عن ذبائح الجن وكانوا يذبحون للجن بل حرم الله ما لم يذكر اسم الله عليه مطلقا كما دل على ذلك الكتاب والسنة في غير موضع . وقد قال تعالى : { فصل لربك وانحر } أي انحر لربك كما قال الخليل : { إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين } وقد قال هو وإسماعيل إذ يرفعان القواعد من البيت : { ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم } { ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا } فالمناسك هنا مشاعر الحج كلها . كما قال تعالى : { لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه } وقال تعالى : { ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } وقال : { لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم } كما قال تعالى : { ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب } . فالمقصود تقوى القلوب لله وهو عبادتها له وحده دون ما سواه . بغاية العبودية له والعبودية فيها غاية المحبة وغاية الذل والإخلاص وهذه ملة إبراهيم الخليل .

                وهذا كله مما يبين أن عبادة القلوب هي الأصل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب } [ ص: 486 ] والنية والقصد هما عمل القلب فلا بد في المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم من اعتبار النية والقصد . ومن هذا الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم لما احتجم وأمر بالحجامة . وقال في الحديث الصحيح : { شفاء أمتي في شرطة محجم أو شربة عسل أو كية بنار وما أحب أن أكتوي } كان معلوما أن المقصود بالحجامة إخراج الدم الزائد الذي يضر البدن فهذا هو المقصود وخص الحجامة لأن البلاد الحارة يخرج الدم فيها إلى سطح البدن فيخرج بالحجامة فلهذا كانت الحجامة في الحجاز ونحوه من البلاد الحارة يحصل بها مقصود استفراغ الدم وأما البلاد الباردة فالدم يغور فيها إلى العروق فيحتاجون إلى قطع العروق بالفصاد وهذا أمر معروف بالحس والتجربة فإنه في زمان البرد تسخن الأجواف وتبرد الظواهر لأن شبيه الشيء منجذب إليه فإذا برد الهواء برد ما يلاقيه من الأبدان والأرض فيهرب الحر الذي فيها من البرد المضاد له إلى الأجواف فيسخن باطن الأرض . وأجواف الحيوان ويأوي الحيوان إلى الأكنان الدافئة . ولقوة الحرارة في باطن الإنسان يأكل في الشتاء وفي البلاد الباردة أكثر مما يأكل في الصيف وفي البلاد الحارة ; لأن الحرارة تطبخ الطعام وتصرفه ويكون الماء النابع في الشتاء سخنا لسخونة جوف الأرض والدم سخن فيكون في جوف العروق لا في سطح الجلد فلو احتجم لم ينفعه ذلك بل قد يضره وفي الصيف [ ص: 487 ] والبلاد الحارة تسخن الظواهر فتكون البواطن باردة فلا ينهضم الطعام فيها كما ينهضم في الشتاء ويكون الماء النابع باردا لبرودة باطن الأرض وتظهر الحيوانات إلى البراري لسخونة الهواء فهؤلاء قد لا ينفعهم الفصاد بل قد يضرهم والحجامة أنفع لهم . وقوله : " شفاء أمتي " إشارة إلى من كان حينئذ من أمته وهم كانوا بالحجاز كما قال ما بين المشرق والمغرب قبلة ; لأن هذا كان قبلة أمته حينئذ ; لأنهم كانوا بالمدينة وما حولها وهذا كما أنه في آخر الأمر بعد أن فرض الحج سنة تسع أو سنة عشر وقت ثلاث مواقيت للمدينة ولنجد وللشام ولما فتح اليمن وقت لهم يلملم ثم وقت ذات عرق لأهل العراق وهذا كما أنه فرض صدقة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير عن كل صغير وكبير ذكرا وأنثى من المسلمين وكان هذا هو الفرض على أهل المدينة ; لأن الشعير والتمر كان قوتهم ولهذا كان جماهير العلماء على أنه من اقتات الأرز والذرة ونحو ذلك يخرج من قوته وهو إحدى الروايتين عن أحمد وهل يجزيه أن يخرج التمر والشعير إذا لم يكن يقتاته . فيه قولان للعلماء .

                وكان الصحابة يرمون بالقوس العربية الطويلة التي تشبه قوس الندف وفتح الله لهم بها البلاد وقد رويت آثار في كراهة الرمي بالقوس الفارسية عن بعض السلف لكونها كانت شعار الكفار فأما بعد أن [ ص: 488 ] اعتادها المسلمون وكثرت فيهم وهي في أنفسها أنفع في الجهاد من تلك القوس . فلا تكره في أظهر قولي العلماء أو قول أكثرهم ; لأن الله تعالى قال : { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل } . والقوة في هذا أبلغ بلا ريب والصحابة لم تكن هذه عندهم فعدلوا عنها إلى تلك ; بل لم يكن لهم غيرها فينظر في قصدهم بالرمي أكان لحاجة إليها إذ ليس لهم غيرها ؟ أم كان لمعنى فيها ؟ ومن كره الرمي بها كرهه لمعنى لازم كما يكره الكفر وما يستلزم الكفر أم كرهها لكونها كانت من شعائر الكفار فكره التشبه بهم ؟ . وهذا كما أن الكفار من اليهود والنصارى إذا لبسوا ثوب الغيار من أصفر وأزرق نهي عن لباسه لما فيه من التشبه بهم وإن كان لو خلا عن ذلك لم يكره وفي بلاد لا يلبس هذه الملابس عندهم إلا الكفار فنهي عن لبسها والذين اعتادوا ذلك من المسلمين لا مفسدة عندهم في لبسها .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية