الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وقد تكلم النظار في العلم الحاصل في القلب عقب النظر والاستدلال فذكروا فيه ثلاثة أقوال كما ذكر ذلك أبو حامد - في مستصفاه - وغيره قول الجهمية وقول القدرية وقول الفلاسفة . وكثير من أهل الكلام لا يذكر إلا القولين : قول الجهمية وقول القدرية . وذلك أنهم يذكرون في كتبهم ما يعرفونه من أقوال من يعرفونه تكلم في هذا وهم لا يعرفون إلا هؤلاء والمسألة هي من فروع القدر فإن الحاصل في نفس حادث فيها فالقول فيه كالأقوال في أمثاله . ومذهب جهم ومن وافقه كأبي الحسن الأشعري وكثير من المتأخرين المثبتة هو مذهب أهل السنة والجماعة ; أن الله خالق كل شيء وأن الله خالق أفعال العباد لكنه لا يثبت سببا ولا قدرة مؤثرة ولا حكمة لفعل الرب فأنكر الطبائع والقوى التي في الأعيان وأنكر الأسباب والحكم فلهذا لم يجعل لشيء سببا . بل يقول هذا حاصل بخلق الله وقدرته ولم يذكروا له سببا وهم صادقون في [ ص: 531 ] إضافته إلى قدره وأنه خالقه خلافا للقدرية لكن من تمام المعرفة إثبات الأسباب ومعرفتها . وأما القدرية من المعتزلة وغيرهم : فبنوه على أصلهم وهو أن كل ما تولد عن فعل العبد فهو فعله لا يضاف إلى غيره كالشبع والري وزهوق الروح ونحو ذلك فقالوا : هذا العلم متولد عن نظر العبد أو تذكر النظر .

                والمتفلسفة بنوه على أصلهم : في أن ما يحدث من الصور هو من فيض العقل الفعال عند استعداد المواد القابلة فقالوا : يحصل في نفوس البشر من فيض العقل الفعال عند استعداد النفس باستحضار المقدمتين وهذا القول خطأ والذي قبله أقرب منه والأول أقرب وليس في شيء منها تحقيق الأمر في ذلك . وحقيقته أن الله وكل بالإنس ملائكة وشياطين يلقون في قلوبهم الخير والشر فالعلم الصادق من الخير والعقائد الباطلة من الشر كما قال ابن مسعود : لمة الملك تصديق بالحق ولمة الشيطان تكذيب بالحق وكما { قال النبي صلى الله عليه وسلم في القاضي : أنزل الله عليه ملكا يسدده } وكما أخبر الله أن الملائكة توحي إلى البشر ما توحيه وإن كان البشر لا يشعر بأنه من الملك كما لا يشعر بالشيطان الموسوس [ ص: 532 ] لكن الله أخبر أنه يكلم البشر وحيا ويكلمه بملك يوحي بإذنه ما يشاء والثالث التكليم من وراء حجاب وقد قال بعض المفسرين : المراد بالوحي هنا الوحي في المنام ولم يذكر أبو الفرج غيره وليس الأمر كذلك . فإن المنام تارة يكون من الله وتارة يكون من النفس وتارة يكون من الشيطان وهكذا ما يلقى في اليقظة . والأنبياء معصومون في اليقظة والمنام . ولهذا كانت رؤيا الأنبياء وحيا كما قال ذلك ابن عباس وعبيد بن عمير وقرأ قوله : { إني أرى في المنام أني أذبحك } وليس كل من رأى رؤيا كانت وحيا فكذلك ليس كل من ألقي في قلبه شيء يكون وحيا والإنسان قد تكون نفسه في يقظته أكمل منها في نومه كالمصلي الذي يناجي ربه فإذا جاز أن يوحى إليه في حال النوم فلماذا لا يوحى إليه في حال اليقظة كما أوحى إلى أم موسى والحواريين وإلى النحل لكن ليس لأحد أن يطلق القول على ما يقع في نفسه أنه وحي لا في يقظة ولا في المنام إلا بدليل يدل على ذلك فإن الوسواس غالب على الناس . والله أعلم .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية