الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فيقال لهم: الأقوال الثلاثة باطلة، والقول الحق ليس واحدا من الثلاثة.

وإنما أصل الغلط هو توهمهم أنا إذا قلنا: إن الوجود ينقسم إلى واجب وممكن لزم أن يكون في الخارج وجود هو نفسه الواجب، وهو نفسه [ ص: 293 ] في الممكن، وهذا غلط، فليس في الخارج بين الموجودين شيء هو نفسه فيهما، ولكن لفظ الوجود ومعناه الذي في الذهن، والخط الذي يدل على اللفظ يتناول الموجودين ويعمهما، وهما يشتركان فيه، فشمول معنى الوجود الذي في الذهن لهما كشمول لفظ الوجود والخط الذي يكتب به هذا اللفظ لهما، فهما مشتركان في هذا، وأما نفس ما يوجد في الخارج فإنما يشتبهان فيه من بعض الوجوه، فأما أن تكون نفس ذات هذا وصفته فيها شيء من ذات هذا وصفته، فهذا مما يعلم فساده كل من تصوره، ومن توقف فيه فلعدم تصوره له.

وحينئذ فالقول في اسم الوجود كالقول في اسم الذات والعين والنفس والماهية والحقيقة وكما أن الحقيقة تنقسم إلى: حقيقة واجبة وحقيقة ممكنة، وكذلك لفظ الماهية ولفظ الذات ونحو ذلك، فكذلك لفظ الوجود.فإذا قلنا: إن الحقيقة أو الماهية تنقسم إلى واجبة وممكنة لم يلزم أن تكون ماهية الواجب فيها شيء من ماهية الممكن، فذلك إذا قيل: الوجود ينقسم إلى واجب وممكن لم يلزم أن يكون الوجود الواجب فيه شيء من وجود غيره، بل ليس فيه وجود مطلق ولا ماهية مطلقة، بل ماهيته هي حقيقية، وهي وجوده.

وإذا كان المخلوق المعين وجوده الذي في الخارج هو نفس ذاته وحقيقته وماهيته التي في الخارج، ليس في الخارج شيئان، فالخالق تعالى أولى أن تكون حقيقته هي وجوده الثابت الذي لا يشركه فيه أحد، وهو نفس ماهيته التي هي حقيقته الثابتة في نفس الأمر. [ ص: 294 ]

ولو قدر أن الوجود المشترك بين الواجب والممكن موجود فيهما في الخارج، وأن الحيوانية المشتركة هي بعينها في الناطق والأعجم: كان تميز أحدهما عن الآخر بوجود خاص، كما يتميز الإنسان بحيوانية تخصه، وكما أن السواد والبياض إذا اشتركا في مسمى اللون تميز أحدهما بلونه الخاص عن الآخر.

وهؤلاء الضالون يجعلون الواحد اثنين، والاثنين واحدا، فيجعلون هذه الصفة هي هذه الصفة، ويجعلون الصفة هي الموصوف، فيجعلون الاثنين واحدا كما قالوا: إن العلم هو القدرة وهو الإرادة، والعلم هو العالم، ويجعلون الواحد اثنين، كما يجعلون الشيء المعين الذي هو هذا الإنسان هو عدة جواهر: إنسان، وحيوان، وناطق، وحساس، ومتحرك بالإرادة، ويجعلون كلا من هذه الجواهر غير الآخر، ومعلوم أنه جوهر واحد له صفات متعددة، وكما يفرقون بين المادة والصورة ويجعلونهما جوهرين عقليين قائمين بأنفسهما، وإنما المعقول هو قيام الصفات بالموصوفات، والأعراض بالجواهر، كالصورة الصناعية: مثل صورة الخاتم والدرهم والسرير والثوب، فإنه عرض قائم بجوهر هو الفضة والخشب والغزل، وكذلك الاتصال والانفصال قائمان بمحل هو الجسم.

وهكذا يجعلون الصورة، الذهنية ثابتة في الخارج كقولهم في المجردات المفارقات للمادة وليس معهم ما يثبت أنه مفارق إلا النفس الناطقة إذا فارقت البدن بالموت، والمجردات هي الكليات التي تجردها النفس من الأعيان المشخصة، فيرجع الأمر إلى النفس وما يقوم بها، ويجعلون الموجد في الخارج هو الموجود في الذهن، كما يجعلون الوجود الواجب هو الوجود المطلق. [ ص: 295 ]

فهذه الأمور من أصول ضلالهم: حيث جعلوا الواحد متعددا، والمتعدد واحدا، وجعلوا ما في الذهن في الخارج، وجعلوا ما في الخارج في الذهن، ولزم من ذلك أن يجعلوا الثابت منتفيا، والمنتفي ثابتا، فهذه الأمور من أجناس ضلالهم، وهذا كله مبسوط في غير هذا الموضع.

التالي السابق


الخدمات العلمية