الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه ) ، وقال : ( فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم ) . وقال : ( وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه ) ، فلم يقيد في هذه الآية الاضطرار ، وقيده فيما قبل . فإن المضطر يكون غير متجانف لإثم . وفي الأولى بقوله : ( غير باغ ولا عاد ) . قال مجاهد وابن جبير وغيرهما : غير باغ على المسلمين وعاد عليهم . فيدخل في الباغي والعادي : قطاع السبيل ، والخارج على السلطان ، والمسافر في قطع الرحم ، والغارة على المسلمين وما شاكله ، ولغير هؤلاء هي الرخصة . وإلى هذا ذهب الشافعي ، وهو أنه إذا لم يخرج باغيا على إمام المسلمين ، ولم يكن سفره في معصية ، فله أن يأكل من هذه المحرمات إذا اضطر إليها . وإن كان سفره في معصية ، أو كان باغيا على الإمام ، لم يجز له أن يأكل . وقال عكرمة وقتادة والربيع وابن زيد وغيرهم : غير قاصد فسادا وتعد ، بأن يجد عن هذه المحرمات مندوحة . وقال ابن عباس والحسن : غير باغ في الميتة في الأكل ، ولا عاد بأكلها ، وهو يجد غيرها ، وهو يرجع لمعنى القول قبله . وبه قال أبو حنيفة ومالك : وأباح هؤلاء للبغاة الخارجين على المسلمين الأكل من هذه المحرمات عند الاضطرار ، كما أباحوا لأهل العدل . وقال السدي : " غير باغ " أي متزيد على إمساك رمقه وإبقاء قوته ، فيجيء أكله شهوة ، " ولا عاد " أي متزود . وقيل : " غير باغ " أي مستحل لها ، " ولا عاد " أي متزود منها . وقال شهر بن حوشب : " غير باغ " أي مجاوز القدر الذي يحل له ، " ولا عاد " أي لا يقصده فيما لا يحل له .

والظاهر من هذه الأقوال ، على ما يفهم من ظاهر الآية ، أنه لا إثم في تناول شيء من هذه المحرمات للمضطر الذي ليس بباغ ولا عاد . وإن قوله : ( إلا ما اضطررتم إليه ) ، لا بد فيه من التقييد المذكور هنا ، وفي قوله : ( غير متجانف لإثم ) ; لأن آية الأنعام فيها حوالة على هاتين الآيتين ; لأنه قال : ( وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه ) . وتفصيل المحرم هو في هاتين الآيتين ، والاضطرار فيهما مقيد ، فتعين أن يكون مقيدا في الآية التي أحيلت على غيرها . والظاهر في البغي والعدوان ، أن ذلك من قبل المعاصي ; لأنهما متى أطلقتا ، تبادر الذهن إلى ذلك . وفي جواز مقدار ما يأكل من الميتة ، وفي التزود منها ، وفي شرب الخمر عند الضرورة قياسا على هذه المحرمات . وفي أكل ابن آدم خلاف مذكور في كتب الفقه ، قالوا : وإن وجد ميتة وخنزيرا ، أكل الميتة ، قالوا : لأنها أبيحت له في حال الاضطرار ، والخنزير [ ص: 490 ] لا يحل بحال ، وليس كما قالوا لأن قوله : ( فمن اضطر ) جاء بعد ذكر تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير . فالمعنى : فمن اضطر إلى أكل شيء من هذه المحرمات ، فرتبتها في الإباحة للأكل منها متساوية ، فليس شيء منها أولى من الآخر بالإباحة ، والمضطر مخير فيما يأكل منها . فقولهم : إن الخنزير لا يحل بحال ليس بصحيح .

وذكر بعض المفسرين أنهم أجمعوا على أن من سافر لغزو ، أو حج ، أو تجارة ، وكان مع ذلك باغيا في أخذ مال ، أو عاديا في ترك صلاة أو زكاة ، لم يكن ما هو عليه من البغي والعدوان مانعا من استباحة الميتة للضرورة . وأنهم أجمعوا أيضا على جواز الترخيص للباغي ، أو العادي الحاضر ، وفي نقل هذين الإجماعين نظر .

واختلف القراء في حركة النون من قوله : ( فمن اضطر ) ( وأن احكم ) ( ولكن انظر ) وشبهه وحركة الدال من : ( ولقد استهزئ ) ، والتاء من : ( وقالت اخرج عليهن ) ، وحركة التنوين من : ( فتيلا انظر ) ، ونحوه ، وحركة اللام من نحو : ( قل ادعوا الله ) ، والواو من نحو : ( أو ادعوا الرحمن ) ، فكسر ذلك عاصم وحمزة ، وحركها أبو عمرو ، إلا في اللام والواو ; وعباس ويعقوب إلا في الواو ; وضم باقي السبعة ، إلا ابن ذكوان فإنه كسر التنوين . وعنه في : ( برحمة ادخلوا ) ، و ( خبيثة اجتثت ) خلاف ، وضابط هذا أنه يكون ضمة هذه الأفعال لازمة ، فإن كانت عارضة ، فالكسر نحو : ( أن امشوا ) ، وتوجيه الكسر أنه حركة التقاء الساكنين ، والضم أنه اتباع . ولم يعتدوا بالساكن ; لأنه حاجز غير حصين ، أو ليدلوا على أن حركة همزة الوصل المحذوفة كانت ضمة . وقرأ أبو جعفر وأبو السمال : فمن اضطر ، بكسر الطاء ، وأصله اضطرر ، فلما أدغم نقلت حركة الراء إلى الطاء . وقرأ ابن محيصن : فمن اطر ، بإدغام الضاد في الطاء ، وذلك حيث وقع . ومعنى الاضطرار : الالجاء بعدم وغرث ، هذا قول الجمهور . وقيل معناه : أكره وغلب على أكل هذه المحرمات . وانتصاب ( غير باغ ) على الحال من الضمير المستكن في اضطر ، وجعله بعضهم حالا من الضمير المستكن في الفعل المحذوف المعطوف على قوله : " اضطر " ، وقدروه : فمن اضطر فأكل غير باغ ولا عاد . قدره كذلك القاضي وأبو بكر الرازي ليجعلا ذلك قيدا في الأكل ، لا في الاضطرار . ولا يتعين ما لاقاه ; إذ يحتمل أن يكون هذا المقدر بعد قوله : " غير باغ ولا عاد " ، بل هو الظاهر والأولى ; لأن في تقدير قبل " غير باغ ولا عاد " فصلا بين ما ظاهره الاتصال بما بعده ، وليس ذلك في تقديره بعد قوله ( غير باغ ولا عاد ) . و " عاد " : اسم فاعل من عدا ، وليس اسم فاعل من عاد ، فيكون مقلوبا ، أو محذوفا من باب شاك ولاث ، كما ذهب إليه بعضهم ; لأن القلب لا ينقاس ، ولا نصير إليه إلا لموجب ، ولا موجب هنا لادعاء القلب . وأصل البغي - كما تقدم - هو طلب الفساد ، وإن كان قد ورد لمطلق الطلب ، فاستعمل في طلب الخير ، كما قال الشاعر :


أألخير الذي أنا أبتغيه أم الشر الذي هو يبتغيني



ويقال :


لا يمنعنك من بغاء الخير تعقاد التمائم



" فلا إثم عليه " ، الإثم : تحمل الذنب ، نفى بذلك عنه الحرج . والمحذوف الذي قدرناه من قولنا : فأكل ، لا بد منه لأنه لا ينف الإثم عمن لم يوجد منه الاضطرار ، ولا يترتب ذلك على الاضطرار وحده ، بل على الأكل المترتب على الاضطرار ، في حال كون المضطر لا باغيا ولا عاديا . وظاهر هذا التركيب أنه متى كان عاصيا بسفره فأكل ، أنه يكون عليه الإثم ; لأنه يطلق أنه باغ ، خلافا لأبي حنيفة ومن وافقه ، فإنه يبيح له الأكل عند الضرورة . وظاهر بناء " اضطر " حصول مطلق الضرورة بشغب ، أو إكراه ، سواء حصل الاضطرار في سفر أو حضر . وظاهر قوله : ( فلا إثم عليه ) نفي كل فرد من الإثم عنه إذا أكل ، لا وجوب الأكل . وقال الطبري : ليس الأكل عند الضرورة رخصة ، بل ذلك عزيمة واجبة ، ولو امتنع من الأكل كان [ ص: 491 ] عاصيا . وقال مسروق : بلغني أنه من اضطر إلى الميتة فلم يأكل حتى مات ، دخل النار ، كأنه أشار إلى أنه قاتل نفسه بتركه ما أباح الله له .

( إن الله غفور رحيم ) : لما ذكر أشياء محرمة اقتضى المنع منها ، ثم ذكر إباحتها للمضطر في تلك الحال المقيدة له ، أتبع ذلك بالإخبار عن نفسه بأنه تعالى غفور رحيم ; لأن المخاطب بصدد أن يخالف ، فيقع في شيء من أكل هذه المحرمات ، فأخبر بأنه غفور للعصاة إذا تابوا ، رحيم بهم . أو لأن المخاطب إذا اضطر فأكل ما يزيد على قدر الحاجة ، فهو تعالى غفور له ذلك ، رحيم بأن أباح له قدر الحاجة . أو لأن مقتضى الحرمة قائم في هذه المحرمات ، ثم رخص في تناولها مع قيام المانع ، فعبر عن هذا الترخيص والإباحة بالمغفرة ثم ذكر بعد الغفران صفة الرحمة ، أي لأجل رحمتي بكم أبحت لكم ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية