الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فإذا: العلم القديم إنما يتعلق بالموجود على صفة غير الصفة التي يتعلق بها العلم المحدث، لا أنه غير متعلق أصلا، كما حكى عن الفلاسفة أنهم لموضع هذا الشك قالوا: إنه لا يعلم الجزئيات.

وليس الأمر كما توهم عليهم، بل يرون أنه لا يعلم الجزئيات بالعلم المحدث الذي من شرطه الحدوث بحدوثها، ويعلمها بالعلم القديم الذي ليس من شرطه الحدوث بحدوثها، إذا كان علة لها لا معلولا عنها، كالحال في العلم المحدث.

وهذا هو غاية التنزيه الذي يجب أن يعترف به، فإنه إذا قد اضطر البرهان إلى أنه عالم بالأشياء من جهة أن صدورها عنه، إنما هو من جهة أنه عالم، لا من جهة أنه موجود فقط، أو موجود بصفة كذا، بل من جهة أنه عالم. كما قال تعالى: ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير [سورة الملك: 14].

وقد اضطر البرهان إلى أنه غير عالم بها بعلم هو على صفة العلم [ ص: 390 ] بالمحدث، فواجب أن يكون هناك بالموجودات علم آخر لا يكيف، وهو العلم القديم.

قال: وكيف يمكن أن يتصور أن المشائين من الحكماء يرون أن العلم القديم لا يحيط بالجزئيات، وهم يرون أنه سبب الإنذار في المنامات والوحي وغير ذلك من أنواع الإلهامات.

قال: فهذا ما ظهر لنا في وجه هذا الشك، وهو أمر لا مرية فيه ولا شك.

قلت: لقائل أن يقول: ليس فيما ذكره جواب، وذلك أن تفريقه بين العلم القديم والعلم المحدث، بأن ذلك سبب للوجود، وهذا سبب عنه -هو قول تقوله طائفة من الفلاسفة، وقد عارضهم طائفة من المتكلمين، فزعموا أن ليس في العلم ما هو سبب لوجود الموجود، بل العلم يطابق المعلوم على ما هو عليه، فلا يكسبه صفة، ولا يكتسب عنه صفة.

وأولئك يقولون: علمه فعل، وهؤلاء يمنعون ذلك.

والتحقيق أن كلا من العلمين: علم الخالق وعلم المخلوق، ينقسم إلى ما يكون له تأثير في وجود معلومه، وإلى ما لا يكون كذلك، فما لا يكون كذلك علم الله بنفسه سبحانه، فإن هذا العلم ليس سببا لهذا الموجود، فلا يجوز إطلاق القول بأن ذلك العلم سبب للوجود مطلقا. [ ص: 391 ]

وكذلك علمنا بمخلوقات الله التي لا أثر لنا فيها كالسماوات.

وأما الثاني فعلم الله بمخلوقاته، فإن خلق المخلوقات مشروط بالعلم بها. كما قال: ألا يعلم من خلق [سورة الملك: 14]، فالعلم بها شرط في وجودها، لكن ليس هو وحده العلة في وجودها، بل لا بد من القدرة والمشيئة.

ومن هنا ضل هؤلاء المتفلسفة، فجعلوا مجرد العلم بنظام المخلوقات موجبا لوجوده، ولم يجعلوا للقدرة والمشيئة أثرا، مع أن تأثير القدرة والمشيئة في ذلك أظهر من تأثير العلم، مع أنهم متناقضون في ذلك، فإنهم قد يثبتون العناية والمشيئة تارة وينفونها تارة.

وعلم العبد بما يريد فعله من أفعاله، هو أيضا شرط في وجود المعلوم، فهذا العلم بهذا المحدث شرط في حصوله، والمعلوم تابع للعلم المحدث هنا، فليس وجود كل معلوم لنا هو علة وسببا لعلمنا مطلقا، بل يفرق في ذلك بين العلم النظري والعلم العملي، فبطل هذا الفرق.

ثم يقال أيضا: لا ريب أن الفاعل إذا أراد أن يفعل أمرا، فعلم ما يريد أن يفعل، لم يكن هذا هو العلم بأن سيكون، فإنه ليس كل من تصور ما يريد أن يفعل يعلم أن سيكون ما يريده، بل الواحد منا يتصور أشياء يريدها ولا يعلم أنها تكون، بل لا تكون، ثم إذا علم العالم أن الشيء سيكون ثم كان، علم أنه قد كان.

فهنا في حقنا ثلاثة علوم، وهو إنما ذكر في حق الله العلم المشروط في الفعل، وهو الذي لا يكون المريد مريدا حتى يحصل ذلك، فإن الإرادة مشروطة بتصور المراد. [ ص: 392 ]

أما العلم بأن سيكون المراد، فهذا لا يثبت بمجرد ما ذكره، فإن هذا علم خبري، وذاك علم طلبي، ثم إذا ثبت هذا العلم جاء الشك، وهو أنه هل يكون هذا العلم هو نفس العلم بوقوعه إذا وقع أم لا؟

والمتكلمون تكلموا في هذين العلمين، وأرادوا جعل أحدهما هو الآخر، فكانوا أقرب إلى الصواب ممن جعل العلم بما يريده هو العلم بأن سيكون المراد، وذلك هو العلم بأن قد كان.

فتبين أن طريقة المتكلمين أقل إشكالا، وأقرب إلى الصواب.

التالي السابق


الخدمات العلمية