الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( ومن تزوج امرأة ثم اختلفا في المهر ) فالقول قول المرأة إلى مهر مثلها ، والقول قول الزوج فيما زاد على مهر المثل ، وإن طلقها قبل الدخول بها فالقول قوله في نصف المهر ، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد ، وقال أبو يوسف : القول قوله قبل الطلاق وبعده إلا أن يأتي بشيء قليل ، ومعناه ما لا يتعارف مهرا لها [ ص: 374 ] هو الصحيح . لأبي يوسف أن المرأة تدعي الزيادة والزوج ينكر والقول قول المنكر مع يمينه إلا أن يأتي بشيء يكذبه الظاهر فيه ، وهذا ; لأن تقوم منافع البضع ضروري ، فمتى أمكن إيجاب شيء من المسمى لا يصار إليه .

ولهما أن القول في الدعاوى قول من يشهد له الظاهر ، والظاهر شاهد لمن يشهد له مهر المثل ; لأنه هو الموجب الأصلي في باب النكاح ، وصار كالصباغ مع رب الثوب إذا اختلفا في مقدار الأجر يحكم فيه القيمة الصبغ . [ ص: 375 ] ثم ذكر هاهنا أن بعد الطلاق قبل الدخول القول قوله في نصف المهر ، وهذا رواية الجامع الصغير والأصل ، وذكر في الجامع الكبير أنه يحكم متعة مثلها وهو قياس قولهما ; لأن المتعة موجبة بعد الطلاق كمهر المثل قبله فتحكم كهو . ووجه التوفيق أنه وضع المسألة في الأصل في الألف والألفين ، والمتعة لا تبلغ هذا المبلغ في العادة فلا يفيد تحكيمها ، ووضعها في الجامع الكبير في العشرة والمائة ومتعة مثلها عشرون فيفيد تحكيمها ، والمذكور في الجامع الصغير ساكت عن ذكر المقدار فيحمل على ما هو المذكور في الأصل . وشرح قولهما فيما إذا اختلفا في حال قيام النكاح أن الزوج إذا ادعى الألف والمرأة الألفين ، فإن كان من مهر مثلها ألفا أو أقل فالقول قوله ، وإن كان ألفين أو أكثر فالقول قولها ، [ ص: 376 ] وأيهما أقام البينة في الوجهين تقبل . وإن أقاما البينة في الوجه الأول تقبل بينتها ; لأنها تثبت الزيادة . وفي الوجه الثاني بينته ; لأنها تثبت الحط ، وإن كان مهر مثلها ألفا وخمسمائة تحالفا ، وإذا حلفا يجب ألف وخمسمائة . [ ص: 377 ] هذا تخريج الرازي . وقال الكرخي : يتحالفان في الفصول الثلاثة ثم يحكم مهر المثل بعد ذلك ، ولو كان الاختلاف في أصل المسمى يجب مهر المثل بالإجماع ; لأنه هو الأصل عندهما ، وعنده تعذر القضاء بالمسمى فيصار إليه ، ولو كان الاختلاف بعد موت أحدهما فالجواب فيه كالجواب في حياتهما ; لأن اعتبار مهر المثل لا يسقط [ ص: 378 ] بموت أحدهما ، ولو كان الاختلاف بعد موتهما في المقدار فالقول قول ورثة الزوج عند أبي حنيفة ، ولا يستثنى القليل ، وعند محمد الجواب فيه كالجواب في حالة الحياة ، وإن كان في أصل المسمى فعند أبي حنيفة القول قول من أنكره ، فالحاصل أنه لا حكم لمهر المثل عنده بعد موتهما على ما نبينه من بعد إن شاء الله . .

التالي السابق


( قوله ومن تزوج امرأة ثم اختلفا ) الاختلاف في المهر إما في أصله أو في قدره كل منهما إما في حال الحياة أو بعد موتهما أو موت أحدهما ، كل منهما إما بعد الدخول أو قبله ، فإن اختلفا في حال الحياة في قدره بعد الدخول قبل الطلاق أو بعده حكم مهر المثل ، فمن كان من جهته كان القول له مع يمينه ، وإن لم يكن من جهة أحد بأن كان بين الدعويين تحالف ويعطي مهر المثل ، هذا قول أبي حنيفة ومحمد على تخريج الرازي ، وعلى تخريج الكرخي يتحالفان في الفصول كلها ويحكم مهر المثل .

وقال أبو يوسف : القول للزوج مع يمينه في الكل إلا أن يأتي بشيء قليل ، وفسره المصنف وجماعة بأن يذكر ما لا يتعارف مهرا لها . [ ص: 374 ]

وقوله ( هو الصحيح ) احتراز عن قول من قال أن يذكر ما لا يصلح مهرا شرعا : أعني أن يذكر ما دون العشرة ; لأنه ذكر هذا اللفظ في البيع فيما إذا اختلفا في الثمن بعد الهلاك فالقول للمشتري إلا أن يأتي بشيء مستنكر وليس في الثمن تقدير شرعي . وقد يقال : ذلك لتعين كون الاستنكار بذلك الطريق لعدم تصور المستنكر بطريق آخر ، أما هنا فكما يتصور المستنكر عرفا يتصور شرعا . ويجاب بأن المستنكر شرعا داخل في المستنكر عرفا ، فإن ما يستنكر شرعا يستنكر عرفا ولا عكس ، فحيث اعتبرناه عرفا فقد اعتبرناه شرعا وزيادة ، فصار الحاصل من قولنا إن ما يستنكر مطلقا لا يكون القول قوله فيه سواء كان عرفا أو شرعا ، ولأنه لو كان شرعا لم يتحقق ; لأنه إذا ادعى خمسة كملت عشرة ولغا كلامه ; لأن العشرة في كونه مهرا شرعا لا يتجزأ وتسمية بعض ما لا يتجزأ شرعا كتسمية كله فلا يتصور حينئذ أن يأتي بالمستنكر . وليس هذا بشيء ; لأن عدم تصحيح الخمسة مثلا وجعل القول قوله وتكميلها عشرة هو لإتيانه بما يستنكر فقد تصور . ورجح الوبري تفسير هؤلاء البعض بأنه ذكر في الرجوع عن الشهادة لو ادعى أنه تزوجها على مائة وهي تدعي ألفا ومهر مثلها ألف وأقام البينة ثم رجع الشهود لا يضمنون عند أبي يوسف ; لأنه لولا الشهادة لكان القول قوله ، ولم تجعل المائة مستنكرا في حقها : يعني مع أن تسمية العشرة مستنكرة فيمن قيمتها عشرة أمثالها .

وإن اختلفا بعد الطلاق قبل الدخول حكم متعة مثلها على التفصيل المذكور في تحكيم مهر المثل على رواية الجامع الكبير ، ووجب نصف ما يدعيه الرجل بعد يمينه عليه على ما في الأصل والجامع الصغير . وقال أبو يوسف : القول للزوج إلا أن يأتي على ما مر ، ولا خلاف بينهم في أن القول قول من يشهد له الظاهر على ما عرف في غير موضع ، وكما يفيده قول المصنف في التعبير عن أبي يوسف إلا أن يأتي بشيء يكذبه الظاهر فنفي كون القول لانتفاء الظاهر معه ، وإنما اختلفوا ، الاشتباه الظاهر هاهنا أنه مع من ؟ فقالا مع من يشهد له مهر المثل ; لأن الغالب في المسمى في الأنكحة أن لا يكون أقل منه ، وهذا أوجه من قول المصنف ; لأنه الموجب الأصلي ; لأن كونه يفيد الظهور لمن هو من جهته ليس بذلك الاعتبار بل بما ذكرنا .

وقال أبو يوسف مع من يشهد له الأصل ببراءة الذمة وإنما اعتبر الشاهد هنا بمهر المثل ; لأنه القيمة الضرورية للبضع إذ كان ليس مالا ، وإنما يتقوم إظهارا لشرفه فيتقدر بقدر الضرورة وهي فيما إذا لم يتيقن بثبوت مسمى ، وهنا [ ص: 375 ] تيقناه وهو ما أقر به الزوج فيكون القول له ، ويحلف على نفي دعواها ، وصار كالاختلاف في قدر المسمى في الإجارة كالقصار ورب الثوب لا يصار إلى تحكيم أجرة المثل لأن تقوم المنافع ضروري فلم يصر إليه حيث أمكن المصير إلى المسمى فكان القول لمن يدعي الأقل فكذا هذا ، وهما يقولان تقومه شرعا إظهارا للخطر يوجب الرجوع إليه عند التردد في المسمى لا ينفيه ، بل هو أحق من التقوم الذي يثبت بسبب المالية ; لأن ذلك يقبل الإبطال بخلاف هذا ، وأما القصار ورب الثوب إذا اختلفا في الأجرة فليس لعمله موجب في الأجر بدون التسمية ليصار إلى اعتباره وللنكاح موجب فهو أشبه باختلاف الصباغ ورب الثوب في المقدار مما ذكر وفيه تحكم قيمة الصبغ .

وأما قوله تيقنا التسمية وهي ما أقر به الزوج فليس بذاك بل المتيقن أحدهما غير عين وهو لا ينفي الرجوع ، إذ لا فرق بين ذلك وعدم التسمية حيث تعذر القضاء بأحدهما عينا ( قوله ثم ذكر هنا ) أي في الجامع الصغير أن القول للزوج في نصف المهر إذا طلقها قبل الدخول وكذا في الأصل . وفي الجامع الكبير تحكم المتعة وقد قدمناه . ووجه التوفيق ظاهر من الهداية . وحاصله يرجع إلى وجوب تحكيم المتعة إلا في موضع يكون ما اعترف به أكثر منها فيؤخذ باعترافه ويعطي نصف مهر المثل .

ووجه ما ذكر أن المتعة موجبة بعد الطلاق قبل الدخول فتحكم كمهر المثل ، وقد يمنع بأن المتعة موجبة فيما إذا لم يكن فيه تسمية وهنا اتفقا على التسمية فقلنا ببقاء ما اتفقا عليه وهو نصف ما أقر به الزوج ، ويحلف على نفي دعواها الزائد ، وعلى هذا فلا يتم ذلك التوفيق بل يتحقق الخلاف . ولهذا قيل : في المسألة روايتان ، لكن ما ذكر في جواب قول أبي يوسف آنفا يدفعه ( قوله وشرح قولهما ) إذا ادعى ألفا وهي ألفين ومهر مثلها ألف أو أقل فالقول له مع يمينه بالله ما تزوجتها على ألفين ، فإن حلف لزمه ما أقر به [ ص: 376 ] تسمية : أي لا يتخير فيها بين أن يعطيها دراهم أو قيمتها ذهبا ، وإن نكل لزمه ألفان مسمى ; لأن النكول إقرار أو بذل على الخلاف وكلاهما يقتضيه تسمية ، وإن كان مهر مثلها ألفين أو أكثر فالقول لها مع يمينها بالله ما تزوجته على ألف ، إن نكلت فلها ما أقر به تسمية لإقرارها به ، وإن حلفت فلها ما ادعت قدر ما أقر به تسمية لاتفاقهما عليه ، والزائد بحكم مهر المثل يتخير فيه الزوج بين الدراهم والذهب ; لأن يمينها لدفع الحط الذي يدعيه هو ، ثم وجوب الزائد بحكم أنه مهر المثل وأيهما أقام البينة قبلت في الوجهين فيما يدعيه هو تسمية ، فإن أقاماها فبينتها أولى في الوجه الأول لإثباتها الزيادة ، وبينته في الثاني لإثباتها الحط .

ونص محمد في هذا أن بينتها أولى لإثباتها الزيادة كالفصل الأول ، كذا في جامع قاضي خان .

وجه الأول أن الزيادة ثابتة بحكم مهر المثل ، وإنما أثبتت بينتها تعينها دراهم وذلك وصف في الثابت وبينته مثبتة ، بخلاف الظاهر وهو الحط فهي المثبتة للزيادة بطريق الأصالة فكانت أكثر إثباتا من المثبتة للوصف ، وإن كان مهر مثلها بين الدعويين ألفا وخمسمائة ، فإن لم يكن لهما بينة تحالفا وأيهما نكلا لزمه دعوى الآخر . وما وقع في النهاية من أن الزوج إذا نكل يلزمه ألف وخمسمائة كأنه غلط من الناسخ . وإن حلفا يجب مهر المثل قدر ما أقر به تسمية والزائد يخير فيه ، فإن أقام أحدهما البينة يثبت ما يدعيه مسمى ، وإن أقاماها تهاترتا في الصحيح لاستوائهما في الإثبات والدعوى ، ثم يجب مهر المثل ويخير فيه كله ; لأن بينة كل منهما تنفي تسمية الآخر فخلا العقد عن التسمية فيجب مهر المثل ، بخلاف التحالف ; لأن وجوب قدر ما يقر به الزوج بحكم الاتفاق .

وذكر قاضي خان أنه كفصل التحالف ، هذا كله تخريج الرازي وقد ذكرنا أن على تخريج الكرخي يتحالفان في الفصول كلها ثم يحكم مهر المثل بعد ذلك ، والأحسن أن يقال : يتحالفان ثم يعطي مهر المثل . واختاره صاحب المبسوط وغيره من المتأخرين ; لأن ظهور مهر المثل عند عدم التسمية ، وبالتحالف ينتفي يمين كل دعوى صاحبه فيبقى العقد بلا تسمية فيجب حينئذ مهر المثل .

وقال قاضي خان : ما قاله الرازي أولى ; لأنا لا نحتاج إلى مهر المثل للإيجاب ، بل ليتبين من يشهد الظاهر فيكون القول مع يمينه [ ص: 377 ] فلا حاجة إلى التحالف ، ويقرع في التحالف للابتداء استحبابا ، ولو بدأ بأيهما كان جاز . وقال القدوري في شرح كتاب الاستحلاف : يبدأ بيمين الزوج ; لأنه كالمشتري والمهر كالثمن ، وفي المتبايعين يبدأ بيمين المشتري وإليه ذهب الإسبيجابي ( قوله ولو كان الاختلاف في أصل المسمى ) في حال الحياة بأن ادعاه أحدهما ونفاه الآخر ( يجب مهر المثل بالإجماع ) ولو كان بعد الطلاق قبل الدخول تجب المتعة بالاتفاق ( لأنه هو الأصل عندهما ) أي عند أبي حنيفة ومحمد ، وعند أبي يوسف تعذر القضاء بالمسمى ; لأن القول لمنكر التسمية مع يمينه فيصار إلى مهر المثل .

واستشكل كون مهر المثل هو الأصل عند محمد بل هو مع أبي يوسف في أن المسمى هو الأصل على ما صرح هو به في مسألة ما إذا تزوجها على هذا العبد أو على هذا العبد وأحدهما أوكس . وما ذكر من إيجابه مع أبي حنيفة مهر المثل لا يستلزم كونه بناء عليه فقد أشرنا إلى أنه ليعرف من معه الظاهر بناء على أن العادة كون المسمى لا ينقص عن مهر المثل إلا نادرا ، لكنا منعنا في تلك المسألة اختلافهم في أن الأصل هو مهر المثل بل الاتفاق عليه ، ولا ينتفي بذلك الخلاف ، فلا يشكل على هذا كون الأصل مهر المثل عند محمد هنا كما هو عند أبي حنيفة ، بل الأولى أن يعلل للكل به والمسألة اتفاقية ( قوله ولو كان الاختلاف بعد موت أحدهما ، فالجواب فيه كالجواب في حياتهما ) أي حال قيام النكاح في الأصل والمقدار ، ومن كان القول له لو كان حيا يكون القول لورثته .

وفي الأصل يجب مهر المثل بعد الدخول وقبله بعد الطلاق المتعة ; لأن اعتبار مهر المثل لا يسقط بموت [ ص: 378 ] أحدهما ، ولهذا يجب في المفوضة مهر المثل بعد موت أحدهما بالاتفاق ( قوله ولو كان الاختلاف بعد موتهما في المقدار فالقول لورثة الزوج عند أبي حنيفة ) كأبي يوسف حال الحياة ، إلا أن أبا حنيفة لم يستثن القليل ، وهذا لسقوط مهر المثل بعد موتهما عند أبي حنيفة ( وعند محمد الجواب بعد موتهما كالجواب في حال الحياة ، وإن كان في أصل المسمى ، فعند أبي حنيفة القول لمن أنكره ) ولا يقضي بشيء وعندهما يقضي بمهر المثل ، وبه قال مالك والشافعي وأحمد وعليه الفتوى ، لكن الشافعي يقول بعد التحالف : وعندنا وعند مالك وأحمد لا يجب التحالف ( قوله على ما نبينه ) يعني في المسألة التي تليها من غير فصل ، وهي ما إذا مات الزوجان وقد سمى لها مهرا ثبت ذلك بالبينة أو بتصادق الورثة فلورثتها أن يأخذوا ذلك من ميراث الزوج ، هذا إذا علم أن الزوج مات أولا أو علم أنهما ماتا معا أو لم تعلم الأولية ; لأن المهر كان معلوم الثبوت ، فلما لم يتيقن بسقوط شيء منه بموت المرأة أولا لا يسقط ، وأما إذا علم أنها ماتت أولا فيسقط منه نصيب الزوج ; لأنه ورث دينا على نفسه ، فعلم بهذا أن المستثنى منه المحذوف في قوله إلا إذا علم إلخ هو هذه الصور الثلاث التي ذكرناها ، كذا في النهاية .

والصواب أن المستثنى منه جميع الصور ; لأن التقدير فلورثتها أن يأخذوا ذلك في جميع الصور إلا في صورة العلم بموتها قبله ; لأن المستثنى منه هو العام ، ولو كان الصور الثلاث مستثنى منها كان أخذ الورثة إنما هو في بعض الثلاث لا كلها




الخدمات العلمية