الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                62 ص: وقد شد هذا القول النظر الصحيح; وذلك أنا رأينا اللحمان على أربعة أوجه:

                                                [ ص: 162 ] فمنها لحم طاهر مأكول، وهو لحم الإبل والبقر والغنم فسؤر كل ذلك طاهر; لأنه ماس لحما طاهرا.

                                                ومنها لحم طاهر غير مأكول، وهو لحم بني آدم وسؤرهم طاهر; لأنه ماس لحما طاهرا.

                                                ومنها لحم حرام، وهو لحم الخنزير والكلب فسؤر ذلك حرام; لأنه ماس لحما حراما.

                                                فكان حكم ما ماس هذه اللحمان الثلاثة كما ذكرنا، يكون حكمه حكمها في الطهارة والتحريم.

                                                ومن اللحمان أيضا لحم قد نهي عن أكله، وهو لحم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع، فمن ذلك السنور وما أشبهه، فكان ذلك منهيا عنه ممنوعا من أكل لحمه بالسنة، فكان في النظر أيضا سؤر ذلك حكمه حكم لحمه; لأنه ماس لحما مكروها فصار حكمه حكمه، كما صار حكم ما ماس اللحمان الثلاثة الأول حكمها، فثبت بذلك كراهة سؤر السنور .

                                                التالي السابق


                                                ش: "شد" بالدال المهملة أي قوى وأيد هذا القول، أشار به إلى قول من ذهب إلى كراهة سؤر الهر .

                                                قوله: "النظر الصحيح" فاعله و"هذا القول" بالنصب مفعوله.

                                                قوله: "وذلك" إشارة إلى النظر الصحيح في محل الرفع على الابتداء، وقوله: "أنا رأينا" خبره؛ ولهذا فتحت "أن" وأراد بالنظر الصحيح: القياس، وهو ظاهر.

                                                قوله: "فسؤر كل ذلك طاهر" فإن قلت: ليس هذا على عمومه; لأن الإبل الجلالة والبقر الجلالة سؤرهما مكروه.

                                                قلت: كراهة سؤرهما ليست مبنية على ما ذكر، وإنما هي لكونها تأكل النجاسات حتى لو حبست ومنعت من ذلك صار سؤرهما طاهرا على ما كان.

                                                [ ص: 163 ] قوله: "وسؤرهم" أي سؤر بني آدم طاهر، وهذا عام في كل آدمي، سواء كان مسلما أو كافرا، صغيرا أو كبيرا، ذكرا أو أنثى، طاهرا أو نجسا، حائضا أو جنبا، إلا في حال شرب الخمر لنجاسة فمه حينئذ. وقيل: هذا إذا شرب الماء من ساعته، فأما إذا شرب بعد ساعة [...] يبلع بصاقه فيها ثلاث مرات يكون طاهرا عند أبي حنيفة ؛ خلافا لهما بناء على مسألتين:

                                                إحداهما: إزالة النجاسة الحقيقية عن الثوب والبدن بما سوى الماء من المائعات الطاهرة.

                                                والثانية: إزالة النجاسة الحقيقية بالغسل في الأواني ثلاث مرات، وأبو يوسف مع أبي حنيفة في المسألة الأولى ومحمد في الثانية، لكن اتفق جوابهما في هذه المسألة لأصلين مختلفين:

                                                أحدهما: أن الصب شرط عند أبي يوسف فلم يوجد.

                                                والثاني: أن ما سوى الماء من المائعات ليس بطهور عند محمد .

                                                قوله: "فسؤر ذلك حرام" فإن قلت: لا يلزم من كون سؤرهما حراما كونه نجسا.

                                                قلت: القصد ها هنا بيان أقسام اللحمان وإثبات النجاسة في هذا القسم يحصل ضمنا; وذلك لأنه لم يحرم إلا لقذارته ونجاسته، وقد قال بعض أصحابنا: نجاسة سؤر الكلب حكم ثابت بدلالة الإجماع; لأن الإجماع لما انعقد على وجوب غسل الإناء بولوغه كان لهذا الإجماع دلالة على نجاسة الماء; لأن لسان الكلب لم يلاق الإناء وإنما لاقى الماء، ولما ورد الشرع بتنجس الإناء مع أن لسانه لم يلاق الإناء فلأن يرد بتنجيس الماء ولسان الكلب لاقاه كان أولى.

                                                فإن قيل: يمكن أن يكون المراد من الأمر بالغسل من الولوغ لكونه قد نجس الإناء فحينئذ كان لسانه ملاقيا للإناء فلم يتم الاستدلال بالأولوية.

                                                [ ص: 164 ] قلت: الحقيقة لا تترك ما لم يقم الدليل على المجاز، فحقيقة الولوغ شرب الكلب المائعات بأطراف لسانه كما ثبت ذلك في كتب اللغة.

                                                قوله: "لحم قد نهي عن أكله وهو لحم الحمر الأهلية" لما روى مسلم في "صحيحه": من حديث علي - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – نهى عن متعة النساء يوم خيبر ، وعن أكل لحوم الحمر الأهلية" .

                                                وكذلك لحم كل ذي ناب من السباع; لما روى مسلم : من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كل ذي ناب من السباع، وعن كل ذي مخلب من الطير" .

                                                قوله: "فمن ذلك السنور" أي من كل ذي ناب من السباع السنور.

                                                "وما أشبهه" كابن عرس ودلق ونمس ونحوها; لقوله: - عليه السلام - "السنور سبع" فظهر من هذا الكلام أن كراهة سؤر الهرة عند الطحاوي لحرمة لحمها يدل أنه إلى التحريم أقرب، وعند الكرخي : لتناولها الجيف فلا يخلو فمها عن نجاسة عادة، فهذا يدل على أن كراهته تنزيه، وقد ذكرناه مرة.

                                                فإن قيل: كان ينبغي على ما ذكره أن يكون سؤره نجسا; لأن لحمه منهي عنه فيكون حراما; فإذا كان حراما يكون كالكلب والخنزير.

                                                قلت: لا نسلم ذلك; لأن الحرمة عارضة عليه لأنه ما حرم إلا حين حرم السباع، فتكون نجاسته عنده عارضة لتناول اسم السبع عليه، فلم يؤثر ذلك في نجاسة سؤره، على أن حديث الطوف يدل على طهارة سؤره، فصار لسؤره شبهان: إن نظرنا إلى أنه سبع يقتضي أن يكون سؤره نجسا، وإن نظرنا إلى قوله - عليه السلام -: "إنها ليست بنجس" يقتضي أن يكون طاهرا، لكن لما انتفى التنجيس بعلة الطواف بقيت الكراهة، وهذا هو التحقيق في هذا المقام.

                                                [ ص: 165 ] قوله: "فصار حكمه حكمه" برفع الأول ونصب الثاني أي صار حكم سؤر الهر كحكم لحمه.

                                                قوله: "فثبت بذلك" جواب شرط محذوف، أي إذا تقرر هذا ثبت بذلك.




                                                الخدمات العلمية