الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      الله الذي رفع السماوات أي خلقهن مرتفعات على طريقة سبحان من كبر الفيل وصغر البعوض لا أنه سبحانه رفعها بعد أن لم تكن كذلك بغير عمد أي دعائم وهو اسم جمع عند الأكثر والمفرد عماد كإهاب وأهب يقال : عمدت الحائط أعمده عمدا إذا دعمته فاعتمد واستند وقيل : المفرد عمود وقد جاء أديم وأدم وقصيم وقصم وفعيل وفعول يشتركان في كثير من الأحكام وقيل : إنه جمع ورجح الأول بما سنشير إليه إن شاء الله تعالى قريبا [ ص: 87 ] وقرأ أبو حيوة ويحيى بن وثاب ( عمد ) بضمتين وهو جمع عماد كشهاب وشهب أو عمود كرسول ورسل ويجمعان في القلة على أعمدة والجمع لجمع السماوات لا لأن المنفي عن كل واحدة منها العمد لا العماد والجار والمجرور في موضع الحال أي رفعها خالية عن عمد ترونها استئناف لا محل له من الإعراب جيء به للاستشهاد على كون السماوات مرفوعة كذلك كأنه قيل : ما الدليل على ذلك فقيل : رؤيتكم لها بغير عمد فهو كقولك : أنا بلا سيف ولا رمح تراني .

                                                                                                                                                                                                                                      ويحتمل أن يكون الاستئناف نحويا بدون تقدير سؤال وجواب والأول أولى وجوز أن تكون الجملة في موضع الحال من السماوات أي رفعها مرئية لكم بغير عمد وهي حال مقدرة لأن المخاطبين حين رفعها لم يكونوا مخلوقين وأيا ما كان فالضمير المنصوب للسماوات .

                                                                                                                                                                                                                                      وجوز كون الجملة صفة للعمد فالضمير لها واستدل لذلك بقراءة أبي ( ترونه ) لأن الظاهر أن الضمير عليها للعمد وتذكيره حينئذ لائح الوجه لأنه اسم جمع فلوحظ أصله في الإفراد ورجوعه إلى الرفع خلاف الظاهر وعلى تقدير الوصفية يحتمل توجه النفي إلى الصفة والموصوف على منوال :


                                                                                                                                                                                                                                      ولا ترى الضب بها يتجحر

                                                                                                                                                                                                                                      .

                                                                                                                                                                                                                                      لأنها لو كانت لها عمد كانت مرئية وهذا في المعنى كالاستئناف ويحتمل توجهه إلى الصفة فيفيد أن لها عمدا لكنها غير مرئية وروي ذلك عن مجاهد وغيره والمراد بها قدرة الله تعالى وهو الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض فيكون العمد على هذا استعارة وأخرج ابن حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : السماء على أربعة أملاك كل زاوية موكل بها ملك وزعم بعضهم أن العمد جبل قاف فإنه محيط بالأرض والسماء عليه كالقبة وتعقبه الإمام بأنه في غاية السقوط وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يمكن أن يكون مراده في وجه ذلك وأنا لا أرى ما قبله يصح عن ابن عباس فالحق أن العمد قدرة الله تعالى وهذا دليل على وجود الصانع الحكيم تعالى شأنه وذلك لأن ارتفاع السماوات على سائر الأجسام المساوية لها في الجرمية كما تقرر في محله واختصاصها بما يقتضي ذلك لا بد وأن يكون لمخصص ليس بجسم ولا جسماني يرجح بعض الممكنات على بعض بإرادته .

                                                                                                                                                                                                                                      ورجح في الكشف استئناف الجملة بأن الاستدلال برفع هذه الأجرام دون عمد كاف والاستشهاد عليه بكونه مشاهدا محسوسا تأكيد للتحقيق ثم لا يخفى أن الضمير المنصوب في ترونها إذا كان راجعا إلى السماوات المرفوعة اقتضى ظاهر الآية أن المرئي هو السماء وقد صرح الفلاسفة بأن المرئي هو كرة البخار وثخنها كما قال صاحب التحفة أحد وخمسون ميلا وتسع وخمسون دقيقة والمجموع سبعة عشر فرسخا وثلث فرسخ تقريبا وذكروا أن سبب رؤيتها زرقاء أنها مستضيئة دائما بأشعة الكواكب وما وراءها لعدم قبوله الضوء كالمظلم بالنسبة إليها فإذا نفذ نور البصر من الأجزاء المستنيرة بالأشعة إلى الأجزاء التي هي كالمظلم رأى الناظر ما فوقه من المظلم بما يمازجه من الضياء الأرضي والضياء الكوكبي لونا متوسطا بين الظلام والضياء وهو اللون اللازوردي وذلك كما إذا نظرنا من جسم أحمر مشف إلى جسم أخضر فإنه يظهر لنا لون مركب من الحمرة والخضرة وأجمعوا أن السماوات التي هي الأفلاك لا ترى لأنها شفافة لا لون لها لأنها لا تحجب الأبصار عن رؤية ما وراءها من الكواكب وكل ملون فإنه يحجب عن ذلك وتعقب ذلك الإمام الرازي بأنا لا نسلم أن كل ملون حاجب فإن الماء والزجاج ملونان لأنهما مرئيان ومع ذلك لا يحجبان فإن قيل : فيهما حجب عن الإبصار الكامل قلنا : وكيف عرفتم أنكم أدركتم هذه الكواكب إدراكا تاما . انتهى . على أن ما ذكروه لا يتمشى في المحدد إذ [ ص: 88 ] ليس وراءه شيء حتى يرى ولا في الفلك الذي يسمونه بفلك الثوابت أيضا إذ ليس فوقه كوكب مرئي وليس لهم أن يقولوا لو كان كل منهما ملونا لوجب رؤيته لأنا نقول جاز أن يكون لونه ضعيفا كلون الزجاج فلا يرى من بعيد ولئن سلمنا وجوب رؤية لونه قلنا : لم لا يجوز أن تكون هذه الزرقة الصافية المرئية لونه وما ذكر أولا فيها دون إثباته كرة النار وما يقال : إنها أمر يحسن في الشفاف إذا بعد عمقه كما في ماء البحر فإنه يرى أزرق متفاوت الزرقة بتفاوت قعره قربا وبعد فالزرقة المذكورة لون يتخيل في الجو الذي بين السماء والأرض لأنه شفاف بعد عمقه لا يجدي نفعا لأن الزرقة كما تكون لونا متخيلا قد تكون أيضا لونا حقيقيا قائما بالأجساد وما الدليل على أنها لا تحدث إلا بذلك الطريق التخيلي فجاز أن تكون تلك الزرقة المرئية لونا حقيقيا لأحد الفلكين كذا قال بعض المحققين وأنت تعلم أنه لا مانع عند المسلمين من كون المرئي هو السماء الدنيا المسماة بفلك القمر عند الفلاسفة بل هو الذي تقتضيه الظواهر ولا نسلم أن ما يذكرونه من طبقات الهواء مانعا وهذه الزرقة يحتمل أن تكون لونا حقيقيا لتلك السماء صبغها الله تعالى به حسبما اقتضته حكمته وعليه الأثريون كما قال القسطلاني ويؤيده ظاهر ما صح من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : وما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء وفي رواية الأرض من ذي لهجة أصدق من أبي ذر ويحتمل أن يكون لونا تخيليا في طبقة من طبقات الهواء الشفاف الذي ملأ الله به ما بين السماء والأرض ويكون لها في نفسها لون حقيقي الله تعالى أعلم بكيفيته ولا بعد في أن يكون أبيض وهو الذي يقتضيه بعض الأخبار لكنا نحن نراها من وراء ذلك الهواء بهذه الكيفية كما نرى الشيء الأبيض من وراء جام أخضر أخضر ومن وراء جام أزرق أزرق وهكذا وجاء في بعض الآثار أن ذلك من انعكاس لون جبل قاف عليها .

                                                                                                                                                                                                                                      وتعقب بأن جبل قاف لا وجود له وبرهن عليه بما يرده كما قال العلامة ابن حجر ما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من طرق أخرجها الحفاظ وجماعة منهم ممن التزموا تخريج الصحيح وقول الصحابي ذلك ونحوه مما لا مجال للرأي فيه حكمه حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم منها أن وراء أرضنا بحرا محيطا ثم جبلا يقال له قاف ثم أرضا ثم بحرا ثم جبلا وهكذا حتى عد سبعا من كل وخرج بعض أولئك عن عبد الله بن بريدة أنه جبل من زمرد محيط بالدنيا عليه كنفا السماء وعن مجاهد مثله ونقل صاحب حل الرموز أن له سبع شعب وأن لكل سماء منها شعبة وفي القلب من صحة ذلك ما فيه بل أنا أجزم بأن السماء ليست محمولة إلا على كاهل القدرة والظاهر أنها محيطة بالأرض من سائر جهاتها كما روي عن الحسن وفي الزرقة الاحتمالان بقي الكلام في رؤية باقي السماوات وظاهر الآية يقتضيه وأظنك لا ترى ذلك وظاهر بعض الآيات يساعدك فتحتاج إلى القول بأن الباقي وإن لم يكن مرئيا حقيقة لكنه في حكم المرئي ضرورة أنه إذا لم يكن لهذا عماد لا يتصور أن يكون لما وراءه عماد عليه بوجه من الوجوه ويؤول هذا إلى كون المراد ترونها حقيقة أو حكما بغير عمد وجوز أن يكون المراد ترون رفعها أي السماوات جميعا بغير ذلك وفي الكشف ما يشير إليه وإذا جعل الضمير للعمد فالأمر ظاهر فتدبر ومن البعيد الذي لا نراه زعم بعضهم أن ترونها خبر في اللفظ ومعناه الأمر روها وانظروا هل لها من عمد ثم استوى سبحانه استواء يليق بذاته على العرش وهو المحدد بلسان الفلاسفة وقد جاء في الأخبار من عظمه ما يبهر العقول وجعل غير واحد من الخلف الكلام استعارة [ ص: 89 ] تمثيلية للحفظ والتدبير وبعضهم فسر استوى باستولى ومذهب السلف في ذلك شهير ومع هذا قدمنا الكلام فيه وأيا ما كان فليس المراد به القصد إلى إيجاد العرش كما قالوا في قوله تعالى : ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات لأن إيجاده قبل إيجاد السماوات ولا حاجة إلى إرادة ذلك مع القول بسبق الإيجاد وحمل ثم على التراخي في الرتبة نعم قال بعضهم : إنها للتراخي الرتبي لا لأن الاستواء بمعنى القصد المذكور وهو متقدم بل لأنه صفة قديمة لائقة به تعالى شأنه وهو متقدم على رفع السماوات أيضا وبينهما تراخ في الرتبة وسخر الشمس والقمر ذللهما وجعلهما طائعين لما أريد منهما كل من الشمس والقمر يجري يسير في المنازل والدرجات لأجل مسمى أي وقت معين فإن الشمس تقطع الفلك في سنة والقمر في شهر لا يختلف جري كل منهما في قوله تعالى : والشمس تجري لمستقر لها . والقمر قدرناه منازل وهو المروي عن ابن عباس وقيل : أي كل يجري لغاية مضروبة دونها سيره وهي إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت وهذا مراد مجاهد من تفسير الأجل المسمى بالدنيا قيل : والتفسير الحق ما روي عن الحبر وأما الثاني فلا يناسب الفصل به بين التسخير والتدبير ثم إن غايتهما متحدة والتعبير بكل يجري صريح في التعدد وما للغاية ( إلى ) دون اللام ورد بأنه إن أراد أن التعبير بذلك صريح في تعدد ذي الغاية فمسلم لكن لا يجديه نفعا وإن أراد صراحته في تعدد الغاية فغير مسلم واللام تجيء بمعنى إلى كما في المعنى وغيره وأنت تعلم لا يفيد أكثر من صحة التفسير الثاني فافهم وما أشرنا إليه من المراد من كل هو الظاهر وزعم ابن عطية أن ذكر الشمس والقمر قد تضمن ذكر الكواكب فالمراد من كل منهما ومما هو في معناهما من الكواكب والحق ما علمت يدبر الأمر أي أمر العالم العلوي والسفلي والمراد أنه سبحانه يقضي ويقدر ويتصرف في ذلك على أكمل الوجوه وإلا فالتدبير بالمعنى اللغوي لاقتضائه التفكر في دبر الأمور مما لا يصح نسبته إليه تعالى : يفصل الآيات أي ينزلها ويبينها مفصلة والمراد بها آيات الكتب المنزلة أو القرآن على ما هو المناسب لما قبل أو المراد بها الدلائل المشار إليها فيما تقدم وبتفصيلها تبيينها وقيل إحداثها على ما هو المناسب لما بعد .

                                                                                                                                                                                                                                      والجملتان جوز أن يكونا مستأنفتين وأن يكونا حالين من ضمير ( استوى ) و ( سخر ) من تتمته بناء على أنه جيء به لتقرير معنى الاستواء وتبيينه أو جملة مفسرة له وجوز أن يكون يدبر حالا من فاعل ( سخر ) و يفصل حالا من فاعل يدبر و ( الله الذي ) .. إلخ على جميع التقادير مبتدأ وخبر وجوز أن يكون الاسم الجليل مبتدأ والموصول صفته وجملة يدبر خبره وجملة يفصل خبرا بعد خبر ورجح كون ذلك مبتدأ وخبرا في الكشف بأن قوله تعالى الآتي : وهو الذي مد الأرض عطف عليه على سبيل التقابل بين العلويات والسفليات وفي المقابل تتعين الخبرية فكذلك في المقابل ليتوافقا ولدلالته على أن كونه كذلك هو المقصود بالحكم لا أنه ذريعة إلى تحقيق الخبر وتعظيمه كما في الوجه الآخر ثم قال : وهو على هذا جملة مقررة لقوله سبحانه : والذي أنزل إليك من ربك الحق وعدل عن ضمير الرب إلى الاسم المظهر الجامع لترشيح التقرير كأنه قيل : كيف لا يكون منزل من هذه أفعاله الحق الذي لا أحق منه وفي الإتيان بالمبتدأ والخبر [ ص: 90 ] معرفتين ما يفيد تحقيق أن هذه الأفعال أفعاله دون مشاركة لا سيما وقد جعلت صلات للموصول وهذا أشد مناسبة للمقام من جعله وصفا مفيدا تحقيق كونه تعالى مدبرا مفصلا مع التعظيم لشأنهما كما في قول الفرزدق :


                                                                                                                                                                                                                                      إن الذي سمك السماء بنى لنا     بيتا دعائمه أعز وأطول

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية