الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          1748 - مسألة : ومن ولد بعد موت موروثه فخرج حيا كله - أو بعضه أقله أو أكثره - ثم مات بعد تمام خروجه - عطس أو لم يعطس - وصحت حياته بيقين بحركة عين ، أو يد ، أو نفس ، أو بأي شيء صحت ، فإنه يرث ويورث ، ولا معنى للاستهلال .

                                                                                                                                                                                          وهو قول أبي حنيفة ، وسفيان الثوري ، والأوزاعي ، وأبي سليمان .

                                                                                                                                                                                          برهان ذلك - : قول الله تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم } .

                                                                                                                                                                                          وهذا ولد بلا شك .

                                                                                                                                                                                          فإن قيل : هلا ورثتموه وإن ولد ميتا بحياته في البطن ؟ قلنا : لو أيقنا حياته لورثناه ، وقد تكون لحركة ريح - والجنين ميت - وقد ينفش الحمل ، ويعلم أنه ليس حملا وإنما كان علة ، فإنما نوقن حياته إذا شاهدناه حيا .

                                                                                                                                                                                          وقال الشافعي : لا يرث ولا يورث حتى يخرج حيا كله .

                                                                                                                                                                                          وهذا قول لا برهان على صحته .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة لا يرث ولا يورث وإن رضع وأكل ما لم يستهل صارخا - وهو قول مالك ، واحتج له مقلدوه بما روي من أن عمر كان يفرض للصبي إذا استهل صارخا .

                                                                                                                                                                                          وعن ابن عمر : إذا صاح صلي عليه .

                                                                                                                                                                                          وعن ابن عباس : إذا استهل الصبي ورث وورث .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج : أخبرني أبو الزبير : أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في المنفوس : يرث إذا سمع صوته .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق وكيع عن سفيان الثوري عن عبد الله بن شريك العامري عن بشر بن غالب ، قال : سئل الحسن بن علي : متى يجب سهم المولود ؟ قال : إذا استهل . [ ص: 344 ] وصح عن إبراهيم النخعي : إذا استهل الصبي وجب عقله وميراثه .

                                                                                                                                                                                          وصح عن شريح : أنه لم يورث من لم يستهل وروي أيضا : عن القاسم بن محمد ، وابن سيرين ، والشعبي ، والحسن ، والزهري ، وقتادة

                                                                                                                                                                                          - وهو قول مالك - وروي أيضا عن أبي حنيفة .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : احتج من قلد هذأ القول بالخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخا من نخسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه } وذكر باقي الخبر .

                                                                                                                                                                                          وبالخبر الثابت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال { صياح المولود حين يقع نزغة من الشيطان } .

                                                                                                                                                                                          وبما روينا من طريق محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا استهل المولود ورث } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق أحمد بن شعيب أنا يحيى بن موسى البلخي نا شبابة بن سوار نا المغيرة بن مسلم عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { الصبي إذا استهل ورث وصلي عليه } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق محمد بن عبد الملك بن أيمن حدث عن أبي الأحوص محمد بن الهيثم نا محمد بن أبي السري العسقلاني عن بقية عن الأوزاعي عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم { إذا استهل المولود صلي عليه وورث ولا يصلى عليه حتى يستهل } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الملك بن حبيب حدثني طلق عن نافع بن يزيد عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { : إذا استهل المولود وجبت ديته وميراثه وصلي عليه إن مات } .

                                                                                                                                                                                          قال ابن حبيب : وحدثنيه أيضا : مطرف عن ابن أبي حازم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                          قالوا وهو قول عمر ، وابن عمر والحسين ، وابن عباس ، وجابر وأبي هريرة : ستة [ ص: 345 ] من الصحابة ، وجماعة من التابعين ، لا يعرف لهم منهم مخالف - : هذا كل ما شغبوا به ، وما نعلم لهم شيئا غير هذا ، وكله إما لا شيء وإما لا حجة لهم فيه .

                                                                                                                                                                                          أما الخبر الصحيح : فينبغي لهم أن يستغفروا الله تعالى من تمويههم به فيما ليس فيه منه شيء ؟ هل ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيئا من حكم الميراث بنص أو بدليل ؟ أما هذا تقويل له عليه الصلاة والسلام ما لم يقل ؟ وهل في ذلك الخبر إلا أن كل مولود فإن الشيطان ينخسه ؟ وهذا حق نؤمن به ، وما خولفوا قط في هذا ، ثم فيه { أنه يستهل صارخا من نخسة الشيطان } هذا فبضرورة الحس والمشاهدة ندري يقينا أنه عليه الصلاة والسلام إنما عني بذلك من استهل منهم ، وبقي حكم من لم يستهل ؟ فنقول لهم : أخبرونا أيوجد مولود يخرج حيا ولا يستهل ؟ أم لا يوجد أصلا ؟ فإن قالوا : لا يوجد أصلا كابروا العيان وأنكروا المشاهدة ، فهذا موجود كثير لا يستهل إلا بعد أزيد من ساعة زمانية ، وربما لم يستهل حتى يموت ؟ ثم نقول لهم : فإذ لا يوجد هذا أبدا فكلامكم وكلامنا فيها عناء ، وبمنزلة من تكلم فيمن يولد من الفم ونحو ذلك من المحال ؟ فإن قالوا : بل قد يوجد هذا ؟ قلنا لهم : فأخبرونا الآن أتقولون : إنه ليس مولودا ؟ فهذه حماقة ومكابرة للعيان ، أم تقولون : إن الشيطان لم ينخسه ، فتكذبوا رسول الله ؟ وهذا كما ترون ؟ أم تقولون : إنه نخسه فلم يستهل ؟ فهذا قولنا ، ورجعتم إلى الحق من أنه عليه الصلاة والسلام ذكر في هذا الخبر : من يستهل دون من لا يستهل ، ولا بد من أحد هذه الثلاث ، إلا أنه بكل حال ليس في هذا الخبر شيء من حكم المواريث ، فبطل احتجاجهم به - وهكذا القول في الخبر الآخر سواء سواء .

                                                                                                                                                                                          وأما حديث ابن قسيط عن أبي هريرة ، فليس فيه إلا : أنه إذا استهل ورث ، وهكذا نقول ، وليس فيه : أنه إذا لم يستهل لم يرث ، فإقحامه فيه : كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبطل تعلقهم به .

                                                                                                                                                                                          وأيضا : فإن لفظة " الاستهلال " في اللغة هو الظهور ، تقول استهل الهلال بمعنى ظهر ، فيكون معناه : إذا ظهر المولود ورث ، وهو قولنا . [ ص: 346 ] وأما خبر أبي الزبير عن جابر ، فلم يقل أبو الزبير : إنه سمعه ، فهو مدلس .

                                                                                                                                                                                          وفي حديث الأوزاعي : بقية وهو ضعيف .

                                                                                                                                                                                          وحديثا : عبد الملك بن حبيب مرسلان ، وعبد الملك - هالك .

                                                                                                                                                                                          فسقط تعلقهم بهذه الآثار .

                                                                                                                                                                                          وأما قولهم : إنه قول ستة من الصحابة لا يعرف لهم منهم مخالف ، فكم قصة مثل هذه قد خالفوا فيها طوائف من الصحابة لا يعرف لهم منهم مخالف ، كالقصاص في اللطمة ، وإمامة الجالس وغير ذلك كثير جدا ، ولا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                          وأيضا : فالآثار المذكورة عن الصحابة إنما فيها : أنه إذا استهل ورث - ولم نخالفهم في ذلك ، وليس فيها إذا لم يستهل لم يورث - فلا حجة لهم فيها .

                                                                                                                                                                                          ثم نسألهم عن مولود ولد فلم يستهل ، إلا أنه تحرك ، ورضع ، وطرف بعينه ، ثم قتله قاتل عمدا ، أيجب فيه قصاص أو دية أم ليس فيه إلا غرة ؟ فإن قالوا : فيه القود أو الدية : نقضوا قولهم ، وأوجبوا أنه ولد حي فلم منعوه الميراث ؟ وإن قالوا : ليس فيه إلا غرة تركوا قولهم - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية