الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( سنفرغ لكم أيها الثقلان ( 31 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 32 ) يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان ( 33 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 34 ) يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران ( 35 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 36 ) ) .

قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : ( سنفرغ لكم أيها الثقلان ) ، قال : وعيد من الله للعباد ، وليس بالله شغل وهو فارغ . وكذا قال الضحاك : هذا وعيد . وقال قتادة : قد دنا من الله فراغ لخلقه . وقال ابن جريج : ( سنفرغ لكم ) أي : سنقضي لكم .

وقال البخاري : سنحاسبكم ، لا يشغله شيء عن شيء ، وهو معروف في كلام العرب ، يقال لأتفرغن لك " وما به شغل ، يقول : " لآخذنك على غرتك " .

وقوله : ( أيها الثقلان ) الثقلان : الإنس والجن ، كما جاء في الصحيح : " يسمعها كل شيء إلا الثقلين " وفي رواية : " إلا الجن والإنس " . وفي حديث الصور : " الثقلان الإنس والجن " ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) .

ثم قال : ( يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان ) أي : لا تستطيعون هربا من أمر الله وقدره ، بل هو محيط بكم ، لا تقدرون على التخلص من حكمه ، ولا النفوذ عن حكمه فيكم ، أينما ذهبتم أحيط بكم ، وهذا في مقام المحشر ، الملائكة محدقة بالخلائق ، سبع صفوف من كل جانب ، فلا يقدر أحد على الذهاب ( إلا بسلطان ) أي : إلا بأمر الله ، ( يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر ) [ القيامة : 10 - 12 ] . وقال تعالى : ( والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) [ يونس : 27 ] [ ص: 497 ] ; ولهذا قال : ( يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران ) .

قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : الشواظ : هو لهب النار .

وقال سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : الشواظ : الدخان .

وقال مجاهد : هو : اللهيب الأخضر المنقطع . وقال أبو صالح الشواظ هو اللهيب الذي فوق النار ودون الدخان . وقال الضحاك : ( شواظ من نار ) سيل من نار .

وقوله : ( ونحاس ) قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( ونحاس ) دخان النار . وروي مثله عن أبي صالح ، وسعيد بن جبير ، وأبي سنان .

قال ابن جرير : والعرب تسمي الدخان نحاسا - بضم النون وكسرها - والقراء مجمعة على الضم ، ومن النحاس بمعنى الدخان قول نابغة جعدة :

يضيء كضوء سراج السلي ط لم يجعل الله فيه نحاسا



يعني : دخانا ، هكذا قال .

وقد روى الطبراني من طريق جويبر ، عن الضحاك ; أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس عن الشواظ فقال : هو اللهب الذي لا دخان معه . فسأله شاهدا على ذلك من اللغة ، فأنشده قول أمية بن أبي الصلت في حسان :


ألا من مبلغ حسان عني     مغلغلة تدب إلى عكاظ
أليس أبوك فينا كان قينا     لدى القينات فسلا في الحفاظ
يمانيا يظل يشد كيرا     وينفخ دائبا لهب الشواظ



قال : صدقت ، فما النحاس ؟ قال : هو الدخان الذي لا لهب له . قال : فهل تعرفه العرب ؟ قال : نعم ، أما سمعت نابغة بني ذبيان يقول


يضيء كضوء سراج السليط     لم يجعل الله فيه نحاسا



وقال مجاهد : النحاس : الصفر ، يذاب فيصب على رءوسهم . وكذا قال قتادة . وقال [ ص: 498 ] الضحاك : ( ونحاس ) سيل من نحاس .

والمعنى على كل قول : لو ذهبتم هاربين يوم القيامة لردتكم الملائكة والزبانية بإرسال اللهب من النار والنحاس المذاب عليكم لترجعوا ; ولهذا قال : ( فلا تنتصران فبأي آلاء ربكما تكذبان )

التالي السابق


الخدمات العلمية