الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        [ ص: 541 ] المسألة الرابعة

                        [ في جواز النسخ بعد اعتقاد المنسوخ والعمل به ] : اعلم أنه يجوز النسخ بعد اعتقاد المنسوخ والعمل به ، بلا خلاف .

                        قال الماوردي : وسواء عمل به كل الناس ; كاستقبال بيت المقدس ، أو بعضهم ; كفرض الصدقة عند مناجاة الرسول .

                        ولا خلاف أيضا في جواز النسخ بعد التمكن من الفعل الذي تعلق به الحكم بعد علمه بتكليفه به ، وذلك بأن يمضي من الوقت المعين ما يسع الفعل .

                        وقد حكي الخلاف في ذلك عن الكرخي .

                        وأما النسخ قبل علم المكلف بوجوب ذلك الفعل عليه ، كما إذا أمر الله تعالى جبريل - عليه السلام - أن يعلم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بوجوب شيء على الأمة ، ثم ينسخه قبل أن يعملوا به ، فحكى السمعاني في ذلك الاتفاق على المنع .

                        قال الزركشي : وليس كذلك ، ففي المسألة وجهان لأصحابنا ، حكاهما الأستاذ أبو منصور ، وإلكيا . انتهى . ويرد على المنع ما ثبت في ليلة المعراج من فرض خمسين صلاة ثم استقرت على خمس .

                        ولا وجه لما قيل : إن ذلك كان على سبيل التقرير دون النسخ .

                        قال ابن برهان في الوجيز : نسخ الحكم قبل علم المكلف بوجوبه جائز عندنا ، ومنعت من ذلك المعتزلة ، وأصحاب أبي حنيفة ، وزعموا أن النسخ قبل العلم يتضمن تكليف المحال .

                        قال : وهذه المسألة فرع تكليف ما لا يطاق ، فإذا قضينا بصحته ; صح النسخ حينئذ .

                        قال : واحتج علماؤنا في هذه المسألة بقصة المعراج ، فإن الله تعالى أوجب على الأمة خمسين صلاة ، ثم نسخها قبل علمهم بوجوبها ، وهذا لا حجة فيه ; لأن النسخ إنما [ ص: 542 ] كان بعد العلم ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أحد المكلفين ، وقد علم ، ولكنه قبل علم جميع الأمة ، وعلم الجميع لا يشترط ، فإن التكليف استقر بعلم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فلا اعتماد على هذا الحديث انتهى .

                        ويجاب عنه : بأن عدم علم الأمة يقتضي وقوع النسخ قبل علم المكلفين بما كلفوا به ، وهو محل النزاع .

                        وحكى القاضي أبو بكر وغيره ، عن جمهور الفقهاء والمتكلمين أن مثل هذا لا يكون نسخا .

                        وقال بعض المتأخرين : نسخ الحكم قبل علم المكلف بالحكم المنسوخ اتفقت الأشاعرة على جوازه ، والمعتزلة على منعه .

                        وحكى الفقهاء في المسألة طريقين :

                        ( أحدهما ) : أن للشافعي في المسألة قولين .

                        ( والثاني ) : الفرق بين الأحكام التكليفية ، والأحكام التعريفية ، فمنعوه في الأول وجوزوه في الثاني ، كتكليف الغافل ، وهو مذهب أبي حنيفة انتهى .

                        وأما إذا كان المكلف قد علم بوجوبه عليه ، ولكن لم يكن قد دخل وقته ، وسواء كان موسعا ، كما لو قال ( اقتلوا المشركين غدا ) ثم نسخ عنهم في ذلك اليوم ، أو يكون على الفور ، ثم نسخ قبل التمكن من الفعل ، أو يؤمر بالعبادة مطلقا ، ثم نسخ قبل مضي وقت يمكن فعلها فيه ، فذهب الجمهور إلى الجواز ، ونقله ابن برهان عن الأشعرية ، وجماعة من الحنفية ، ونقله غيرهم عن معتزلة البصرة .

                        قال القاضي في التقريب : وهو قول جميع أهل الحق .

                        وذهب أكثر الحنفية كما قاله ابن السمعاني ، والحنابلة ، والمعتزلة إلى المنع ، وبه قال الكرخي والجصاص ، والماتريدي والدبوسي ، والصيرفي .

                        [ ص: 543 ] احتج الجمهور : بأنه لا مانع من ذلك ، لا عقلا ولا شرعا مع أن المقتضى موجود ، وهو أنه رفع تكليف قد ثبت على المكلف ، فكان نسخا ، وليس في ذلك ما يستلزم البداء ، ولا المحال ; لأن المصلحة التي جاز النسخ لأجلها بعد التمكن من الفعل ، وبعد دخول الوقت يصح اعتبارها قبل التمكن من الفعل ، وقبل دخول الوقت ، للقطع بأن تبديل حكم بحكم ، ورفع شرع بشرع كائن فيهما .

                        وأما إذا كان قد دخل وقت المأمور به ، لكن وقع نسخه قبل فعله ، إما لكونه موسعا ، أو لكونه أراد أن يشرع فيه ، فنسخ ، فقال سليم الرازي وابن الصباغ إنه لا خلاف بين أهل العلم في جوازه ، وجعلوا صورة الخلاف فيما إذا كان النسخ قبل دخول الوقت ، وكذا نقل الإجماع في هذه الصورة ابن برهان وبعض الحنابلة ، والآمدي ، وبه صرح إمام الحرمين في البرهان .

                        وأما إذا كان قد دخل وقته ، وشرع في فعله ، فنسخ قبل تمام الفعل ، فقال القرافي : لم أر فيه نقلا ، وجعلها الأصفهاني في شرح المحصول من صور الخلاف ، فمن قال بالجواز جوز هذه الصورة ، ومن قال بالمنع منعها .

                        وأما إذا وقع النسخ بعد خروج الوقت قبل الفعل .

                        قال الزركشي : فمقتضى استدلال ابن الحاجب أنه يمتنع بالاتفاق ، ووجهه بأن التكليف بذلك الفعل المأمور به بعد مضي وقته ينتفي لانتفاء الوقت ، وإذا انتفى فلا يمكن رفعه ; لامتناع رفع المعدوم ، لكن صرح الآمدي في الإحكام بالجواز ، وأنه لا خلاف فيه .

                        قيل : ولا يتأتى إلا إذا صرح بوجوب القضاء ، أو على القول بأن الأمر بالأداء يستلزم القضاء .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية