الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال: فأما قوله: فأن لا يبصر بعض الأشياء أفضل من أن يبصرها -فهو أشبه ما قاله من الحجج، وأقربها إلى التروج والقبول قبل التأمل، وإنما ذلك يكون بالقياس إلينا على ضيق وسعنا وزماننا، فيصح أن يقال: إن اشتغالنا بإبصار الأفضل أولى منه بالأخس، فأما إذا [ ص: 430 ] كان الوسع بحيث لا يشغل فيه إدراك الأخس، ولا يعوق عن إدراك الأفضل، فلا.

ثم هذا الخسيس إنما هو خسيس بالقياس إلينا أيضا وفي أشياء مباينة لطباعنا، منافرة لحواسنا، لا على الإطلاق.

وبالقياس إلى كل خساس، فإن طعم العذرة في فم الخنزير، كطعم العسل في فم الإنسان، وإذا نظرت إلى الكل لم تجد فيه خسيسا تعر معرفته أو يضر علمه، أو يكون لا إدراكه أولى من إدراكه، لا في الروحانيات ولا في الجسمانيات، لا في السماويات ولا في الأرضيات، كيف وما في الأرض وتحت السماء ليس غير الاستقصات الكائنة، وما يتولد عنها بامتزاجها! وليس في الممتزج منها سواها إلا قوى سماوية، وما منها ما يضر إدراكه أو تعر معرفته، اللهم إلا لشخص ينافيه ويضاده لا على الإطلاق، ومن علا عن المضادة والمباينة، فلا يكون ذلك بالقياس إلا مكروها.

فالله تعالى وملائكته أجل من أن ينالهم الأذى بضد أو مباين، من [ ص: 431 ] لون أو طعم أو رائحة، فكيف وما في الوجود إلا ما صدر عنه تعالى، ومما عنه، وهو عنه بالحقيقة؟ فما لا يأنف منه أن يخلقه ويوجده، لا يأنف منه أن يدركه، وما لم يعره في أن فعله لا يعره في أن علمه، ولا له كيفية تناسبه، من لون أو طعم أو رائحة فيؤثرها، وأخرى تباينه فيكرهها فلم ننتفع الآن بالقضية المشنعة، أعني القائلة: فأن لا يبصر بعض الأشياء أفضل من أن يبصرها.

ثم الإبصار، إن كان عن عجز وضيق وسع، فليس بأفضل من الإبصار، وإن كان من نوع الالتفات والتقزز، فذلك من المنافي والمؤذي، وقد قلنا فيه.

قال: وأما قوله: فكمال ذلك العقل، إذ كان أفضل الكمالات، يجب أن يكون بذاته، فإنها أفضل الموجودات وأكملها، وأشرف المعقولات -فقول صادق صحيح، على الوجه الذي قلناه، لا على الوجه [ ص: 432 ] الذي يقصده من أن كماله بفعله الذي هو بعقل ذاته؛ إذ قد سلم أن ذاته في غاية الكمال والشرف والجلال، فليس كمالها بفعل من الأفعال: لا بعقل ذاته، ولا بعقل غيرها، بل تعقلها لذاتها فعل شريف كامل، صدر عن شرف الذات وكمالها، فكان كمال الفعل لكمال الذات، لا كمال الذات لكمال الفعل، وقد سبق هذا.

قال: وأما قوله: وهذا يوجد هكذا دائما، من دون تعرف أو حس أو رأي أو تفكر -فهذا ظاهر جدا، فإن الإدراك والتعقل التام للأمر القديم الدائم، من العاقل التام القديم الدائم، تام قديم دائم لا محالة.

التالي السابق


الخدمات العلمية