الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                الركن الثالث : الجناية نفسها ، وهي العقل ; ويتمهد فقهه ببيان العمد ، والخطأ ، وشبه العمد ، وكلها إما مباشرة أو تسببا ، أو هما ، أو بطريان أحدهما على الآخر والشركة فيها ، فهذه ثمانية أقسام .

                                                                                                                القسم الأول : العمد . في الجواهر : العمد ما قصد فيه إتلاف النفس ، وكان مما يقتل غالبا من محدد ، أو مثقل ، أو بإصابة المقاتل ، كعصر الأنثيين ، أو شده وضغطه ، أو يهدم عليه بنيانا ، أو يصرعه ويجر برجله على غير اللعب ، أو يغرقه ، أو يحرقه ، أو يمنعه من الطعام والشراب ، وأما اللطمة واللكزة ; فتتخرج على الروايتين في شبه العمد ، في نفيه وإثباته ، وفي الكتاب : إن طرحه في نهر ولا يعلم أنه يحسن العوم على وجه العداوة ، قتل ، أو على غير ذلك ، ففيه الدية ، وإن تعمد ضربه بلطمه ، أو بلكزه ، أو غير ذلك ، ففيه القود ، ومن العمد ما لا قود فيه كالمتصارعين والمتراميين على وجه اللعب ، أو يأخذ برجله على وجه اللعب ، ففيه دية الخطأ على العاقلة أخماسا ، فإن تعمد هؤلاء القتل بذلك ففيه القصاص . وفي التنبيهات : قيل هذا إذا كانا معا يتفاعلان ذلك ، كل واحد منهما مع الآخر ، [ ص: 280 ] وهو ظاهر لفظه ، أما إذا فعل أحدهما على وجه اللعب ، والآخر لم يلاعبه ولا رماه ، فالقصاص ، قاله مالك . وقيل : سواء اللعب وغيره منهما أو من أحدهما ، وهو الصواب ، والتفريق بعيد إذا عرف قصد اللعب ، وتكون رواية عبد الملك : أنه ذلك كالخطأ خلافا ، وكذلك اختلف في الأدب والعقل الجامع كالحاكم ، والجلاد ، والمؤدب ، والأب ، والزوج ، والخاتن ، والطبيب ، فقيل : كالخطأ ويدخلهما الاختلاف في شبه العمد ، قال اللخمي عن ابن وهب : دية اللعب مغلظة الأخماس .

                                                                                                                القسم الثاني : الخطأ . وفي الجواهر : الخطأ : ما لا قصد فيه للفعل ، كما لو سقط على غيره ، أو ما لا قصد فيه للفعل إلى الشخص ، كما لو رمى صيدا فقتل إنسانا ، وظن الإباحة تصير العمد خطأ ; كقاتل رجل في أرض الحرب غلبة وفي الكفار وهو مسلم ، فلا قصاص ، وفيه الكفارة والدية ، أو قتل رجلا عمدا يظنه ممن لو قتله لم يكن فيه قصاص ، فلا قصاص .

                                                                                                                القسم الثالث : شبه العمد . وفي التنبيهات : هو ما أشكل أنه أريد به القتل ولم يره مالك إلا في الآباء مع أبنائهم ، وغيره يرى فيه الدية مطلقا مثلثة عند ( ش ) ومربعة عند ( ح ) ، وصفته عندهم في غير الآباء : أن يضربه عمدا على وجه الفائدة والغضب ، ولا يقصد قتله ، وبغير آلة كالسوط والعصا ( قال اللخمي : شبه العمد أربعة أقسام : بغير آلة كالسوط والعصا ) والبندقة إلا أن يقوم دليل العمد لقوة الضربة ، أو بآلة القتل ممن لا يتهم كالأبوين ، أو ممن . . . كالطبيب ، وصفته . . . ) وتقدم بسط منع إرادته كالمصارع . قال في المقدمات : إن قصد [ ص: 281 ] الفعل دون القتل فثلاثة أقسام : لعب ، وأدب ، وفائدة . ففي الأول : ثلاثة أقوال ، قال ابن القاسم : هو خطأ ، وروايته عن مالك في الكتاب ، وروى عبد الملك : هو عمد يقتص به ، وتأول الأول على أن صاحبه لاعبه ، وبقي الخلاف ، والظاهر : ثبوته ، والثالث ، ابن وهب : هو شبه العمد ، تغلظ ديته على الجاني في ماله : ثلاثون حقة ، وثلاثون جذعة ، وأربعون خلفة ، والتفرقة بين أن يلاعبه أم لا ، قول رابع ، وفي الأدب تجري الثلاثة الأقوال الأول ، وقال الباجي : إنما يختلف في تغليظ الدية ولا قصاص بحال ، وهذا إذا علم أنه ضربه أدبا ، وإن لم يعلم ذلك إلا من قوله ، ففي تصديقه قولان : إن الظاهر يقتضي القصاص ، وفي النائرة قولان : المشهور : القصاص إلا في الأب والأم والجد ، وعنه : لا قصاص ، وهو شبه العمد ، فعله فيه الدية ، وعليه أكثر أهل العلم ( ش ) و ( ح ) وغيرهما ، واختلفوا هل يختص بالتعيين ؟ قاله ( ح ) وصاحباه ، أم لا ، واختلفوا في صفته ، فقال ( ح ) : لا يقتص إلا فيمن قتل بحديدة أو ضهطة الغضب أو النار ، وقيل : لا يقتص إلا في الحديدة ، وإن قصد القتل فقسمان : غيلة فيقتل على كل حال ; لأنه حرابة ، ونائرة ، خير الولي في القصاص والعفو إلا لمن يقتل بعد أخذ الدية ، فقيل : لا يجوز للولي العفو ، بقوله تعالى : ( فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ) ، وعن النبي عليه السلام : ( لا أعفي رجلا قتل بعد أخذ الدية ) هذا نص المقدمات . والشافعية يسمونه عمد الخطأ ، والجناية شبه العمد . واحتج الأئمة على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم في أبي داود وغيره : ( ألا إن دية الخطأ في شبه العمد ما كان بالسوط والعصا : مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها [ ص: 282 ] - ويروى - : ألا إن في قتيل العمد الخطأ قتيل السوط والعصا : مائة من الإبل ) وفسره الأئمة بالضرب بما لا يقتل غالبا ، كالعصا الصغير والسوط ونحوه . وقال القاضي في المعونة : اجتمع شبه العمد ; لأنه ضربه بما لا يقتل غالبا ، وشبه الخطأ ، لأنه لم يقصد القتل ، فلم يعط حكم أحدها ، فغلظت الدية . واحتج أصحابنا بأن الله تعالى لم يذكر في كتابه العزيز إلا العمد والخطأ ، ولو كان ثالث لذكره لقوله تعالى : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) .

                                                                                                                القسم الرابع : في بيان المباشرة . وفي الجواهر : هي ما يترتب عليه زهوق الروح بغير واسطة ; كحز الرقبة ، أو بواسطة ; كالجراحات المفضية للموت ، أو ما يقوم مقامها كالخنق والحرق والتغريق وشبهه ، وتحديده : ما يعده أهل العادة علة الزهوق من غير واسطة .

                                                                                                                القسم الخامس : السبب ، وفي الجواهر : هو كحفر البئر حيث لا يؤذن له قصد الإهلاك ، والإكراه ، وشهادة الزور في القصاص على إحدى الروايتين ، وتقديم الطعام المسموم للضيف ، وحفر بئر في الدهليز ، وتغطيته عند دخول الداخل أو حفره ليقع فيه ، ثم وقع فيه غيره ، وضابطه : ما تشهد العادة أنه لا يكفي في زهوق الروح ، وأن له مدخلا فيه .

                                                                                                                القسم السادس : اجتماع السبب والمباشرة ، وله ثلاث رتب :

                                                                                                                الرتبة الأولى : تغليب السبب على المباشرة ، وفي الجواهر : هو ظاهر إذا لم تكن المباشرة عدوانا كحفر بئر على طريق الأعمى ليس فيها غيره ، ولا طريق له غيرها ، أو طرحه مع سبع في مكان ضيق أو أمسكه على ثعبان مهلك ، أو قدم الطعام المسموم ، أو غطى رأس البئر في الدهليز ، واتفقت الرواية على تغليب السبب في شهود القصاص إذا رجعوا بعد الاستيفاء والولي غير عالم بالتزوير ، وإلا [ ص: 283 ] فالولي معهم شريك ; لاعتدال السبب مع السبب مع المباشرة . وعن مالك : إن حدد قصبا أو عيدانا في باب الجنان لتدخل في رجل الداخل من سارق أو غيره : فيه الدية دون القود ; لأنه فعله في ملكه . قال أشهب : وكذلك إن حفر بئرا في أرضه ; ليسقط فيه سارق أو طارق ، وكذلك إن جعل على حائطه شركا ، فإنه يضمن . قال محمد : إن تمادى بالإشارة بالسيف عليه وهو يهرب - وهو عدوه - فهرب حتى مات ، فالقصاص ، وإن مات من أول الإشارة ، فالدية على عاقلته ، وقال ابن القاسم : إن طلبه بالسيف فما زال يجري حتى مات ، يقسم ولاته ، لمات من خوفه ، ويقتل ، وإن أشار فقط فمات ، وبينهما عداوة ، فهو من الخطأ ، وقال عبد الملك : إن طلبه بالسيف فعثر فمات ، فالقصاص ، وقاله ابن القاسم ، وقال ابن ميسر : لا قصاص في هؤلاء ; لأنه قد يكون مات من شدة الجري لا من الخوف ، أو منهما ، ولا يمكن القصاص إلا على نفي شبهة العمد ، واستحسنه جماعة من القرويين ، وإن طرح عليه حية لا يلبث لديغها على غير وجه اللعب ، مثل تعود الجرأة ، قتل به ، ولا يصدق في إرادة اللعب ، وإنما اللعب ما يفعله الشباب بعضهم ببعض ، فإنهم لا يعرفون غائلة أنواع الحيات ، فهذا خطأ . قال ابن يونس : إن قال له : اقطع يدي أو يد عبدي فعلى المأمور العقوبة لحق الله تعالى ، ولا غرم عليه في الحر ولا غيره للإذن .

                                                                                                                الرتبة الثانية : أن تغلب المباشرة لسبب ، كحافر البئر في داره لنفع نفسه فردى فيها رجل رجلا فالقود على المردي دون الحافر تغليبا للمباشرة لعدم العدوان في السبب ، وتحقق فيه .

                                                                                                                الرتبة الثالثة : اعتدال السبب والمباشرة فيقتص منها ; كالإكراه على الفعل ، يقتل المكره لقوة إلجائه ، والمكره لأنه المباشر ، ويلحق به من تتعذر مخالفته ، كالسيد [ ص: 284 ] يأمر عبده ، والسلطان يأمر رجلا ، فأما الأب يأمر ولده ، والمعلم يأمر صبيا ، والصانع بعض متعلميه ، والمأمور محتلم ، قتل وحده دون الآمر ، أو غير محتلم ، قتل الآمر لقوة إلجائه لضعف جنان الصبي ، وعلى عاقلة الصبي نصف الدية لمشاركته ، قاله ابن القاسم ، وقال ابن نافع : لا يقتل الأب ولا السيد ، وإن أمر أعجميا ، أما من تخاف مخالفته ، فيقتل المأمور دون الآمر ، ويضرب الآمر ويحبس ، فإن أمسك القاتل اقتص منهما للاعتدال ، وشرط القاضي أبو عبد الله البصري من أصحابنا في الممسك أن يعلم أنه لولاه لم يقدر الآخر على القتل ، وكالحافر عدوانا مع المردي ، كمن حفر بئرا ليقع فيها رجل فردى ذلك الرجل فيها غير الحافر . قال القاضي أبو الحسن : يقتلان للاعتدال ، وقال القاضي أبو عبد الله بن هرون : يقتل المردي دون الحافر ، تغليبا للمباشرة ، وكشهود القصاص مع الوالي كما سبق بيانه .

                                                                                                                فرع :

                                                                                                                في الكتاب : إن سقاه سما قتل به بقدر ما يرى الإمام . قال ابن يونس : قال ابن حبيب : إن قال : سقاني سما وقد تقيأ منه ، ( أو لم يتقيأ ) فمات منه ففيه القسامة ( ولا يقاد من ساقي السم ، وإن شهد شاهدان أنه سقاه سما ، ففيه القسامة ) قال أصبغ : إن قدمت إليه امرأته طعاما فلما أكله تقيأ أمعاءه مكانه ، فأشهد أنها امرأته وخالتها فلانة ، فإن أقرت امرأته أن الطعام أتت به خالتها ففيه القسامة ، وقوله : امرأتي وخالتها ، يكفي ، وإن لم يقل منه أموت ، فإذا ثبت قوله بشاهدين أقسموا على إحدى المرأتين فتقتل ، ولا ينفع المرأة قولها : خالتي أتتني به ، وتضرب الأخرى مائة وتحبس سنة .

                                                                                                                [ ص: 285 ] فرع :

                                                                                                                في الكتاب : إذا دفع لصبي دابة يهيئها ، أو سلاحا فمات بذلك فديته على عاقلته ، ويعتق رقبة ، وإن حمله على دابته يمسكها ، فوطئت رجلا فقتلته ، فالدية على عاقلة الصبي ; لأنه المحرك للدابة بركوبه عليها ، ولا رجوع لعاقلته على العاقلة الأخرى .

                                                                                                                القسم السابع : في طريان المباشرة على المباشرة فيقدم الأقوى ، فإن جرح الأول وحز الثاني الرقبة اقتص من الثاني ، أو أنفذ الأول المقاتل وأجهز الثاني ، اقتص من الأول بغير قسامة ، وبولغ في عقوبة الثاني ، قاله ابن القاسم ، وعنه : يقتل المجهز ويعاقب الأول ، وإن اجتمعوا على ضربه فقطع هذا يده ، وقلع الآخر عينه ، وجدع الآخر أنفه ، وقتله آخر ، وقد اجتمعوا على قتله فمات مكانه ; قتلوا به ; لاشتراكهم فيه ، وإن كان جرح بعضهم أنكى ، ولا قصاص له في الجراح ما لم يتعمدوا المثلة مع القتل ، وإن لم يريدوا قتله اقتص من كل بجرحه ، وقتل قاتله ، وإن قتل مريضا مشرفا قتل .

                                                                                                                القسم الثامن : في الشركة في الموجب ، وفي الجواهر : كما إذا حفر بئرا فانهارت عليهم فمات أحدهما : قال أشهب : على عاقلة الآخر نصف الدية ، وكما لو جرح نفسه وجرحه غيره فمات ، فيجب له أرش ما يقابل فعل الغير .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية