الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

وأما من قال : إنه لبى بالحج وحده ، ثم أدخل عليه العمرة ، وظن أنه بذلك تجتمع الأحاديث ، فعذره أنه رأى أحاديث إفراده بالحج صحيحة ، فحملها على ابتداء إحرامه ، ثم إنه أتاه آت من ربه تعالى فقال : قل : عمرة في حجة ، فأدخل العمرة حينئذ على الحج ، فصار قارنا ؛ ولهذا قال للبراء بن عازب : " إني سقت الهدي وقرنت " ، فكان مفردا في ابتداء إحرامه ، قارنا في أثنائه ، وأيضا فإن أحدا لم يقل إنه أهل بالعمرة ، ولا لبى بالعمرة ، ولا أفرد العمرة ، ولا قال : خرجنا لا ننوي إلا العمرة ، بل قالوا : أهل بالحج ، ولبى بالحج ، وأفرد الحج ، وخرجنا لا ننوي إلا الحج ، وهذا يدل على أن الإحرام وقع أولا بالحج ، ثم جاءه الوحي من ربه تعالى بالقران ، فلبى بهما فسمعه أنس يلبي بهما ، وصدق وسمعته عائشة ، وابن عمر ، وجابر يلبي بالحج وحده أولا وصدقوا .

قالوا : وبهذا تتفق الأحاديث ، ويزول عنها الاضطراب .

وأرباب هذه المقالة لا يجيزون إدخال العمرة على الحج ، ويرونه لغوا ، [ ص: 143 ] ويقولون : إن ذلك خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - دون غيره . قالوا : ومما يدل على ذلك : أن ابن عمر قال : لبى بالحج وحده ، وأنس قال : أهل بهما جميعا ، وكلاهما صادق فلا يمكن أن يكون إهلاله بالقران سابقا على إهلاله بالحج وحده ؛ لأنه إذا أحرم قارنا ، لم يمكن أن يحرم بعد ذلك بحج مفرد ، وينقل الإحرام إلى الإفراد ، فتعين أنه أحرم بالحج مفردا ، فسمعه ابن عمر ، وعائشة ، وجابر ، فنقلوا ما سمعوه ، ثم أدخل عليه العمرة ، فأهل بهما جميعا لما جاءه الوحي من ربه ، فسمعه أنس يهل بهما ، فنقل ما سمعه ، ثم أخبر عن نفسه بأنه قرن ، وأخبر عنه من تقدم ذكره من الصحابة بالقران ، فاتفقت أحاديثهم ، وزال عنها الاضطراب والتناقض .

قالوا : ويدل عليه قول عائشة : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليهل ، ومن أراد أن يهل بحج فليهل ، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل ) . قالت عائشة : فأهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحج وأهل به ناس معه . فهذا يدل على أنه كان مفردا في ابتداء إحرامه ، فعلم أن قرانه كان بعد ذلك .

ولا ريب أن في هذا القول من مخالفة الأحاديث المتقدمة ، ودعوى التخصيص للنبي - صلى الله عليه وسلم - بإحرام لا يصح في حق الأمة ما يرده ويبطله ، ومما يرده أن أنسا قال : صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر بالبيداء ، ثم ركب ، وصعد جبل البيداء ، وأهل بالحج والعمرة حين صلى الظهر .

وفي حديث عمر ، أن الذي جاءه من ربه قال له : " صل في هذا الوادي المبارك ، وقل : عمرة في حجة " . فكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالذي روى عمر أنه أمر به ، وروى أنس أنه فعله سواء ، فصلى الظهر بذي الحليفة ، ثم قال : " لبيك حجا وعمرة " .

التالي السابق


الخدمات العلمية