الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      دخول الملك طغرلبك على بنت الخليفة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لما استقر الملك طغرلبك ببغداد ، أرسل وزيره عميد الملك إلى الخليفة يطالبه بنقل السيدة من الدار العزيزة النبوية إلى دار المملكة ، فتمنع الخليفة من ذلك ، وقال : إنكم إنما سألتم أن يعقد العقد فقط لحصول التشريف ، والتزمتم لنا بعدم المطالبة بها ، فتردد في ذلك بين الخليفة والملك ، وأرسل الملك زيادة على النقد مائة ألف دينار ومائة وخمسين ألف درهم ، وتحفا أخر ، وأشياء لطيفة ، فلما كان ليلة الاثنين الخامس عشر من صفر هذه السنة زفت السيدة ابنة الخليفة إلى دار المملكة ، فضربت لها السرادقات من دجلة إلى دار المملكة ، وضربت الدبادب والبوقات عند دخولها دار المملكة ، وكانت ساعة عظيمة ، فأجلست [ ص: 789 ] على سرير مكلل بالذهب ، وعلى وجهها برقع ، ودخل الملك طغرلبك فوقف بين يديها ، فقبل الأرض ولم تقم له ولم تره ، ولم يجلس حتى انصرف إلى صحن الدار ، والحجاب والأتراك يرقصون هناك فرحا وسرورا ، وبعث لها مع الخاتون أرسلان ابنة أخيه زوجة الخليفة عقدين فاخرين وقطعة ياقوت حمراء كبيرة هائلة ، ودخل من الغد فقبل الأرض ، وجلس على سرير مكلل بالفضة بإزائها ساعة ، ثم خرج وأرسل لها جواهر نفيسة كثيرة مثمنة ، وفرجية نسيج مكللة باللؤلؤ ، وما زال كذلك كل يوم يدخل ، ويقبل الأرض ، ويجلس على سرير بإزائها ، ثم يخرج فيبعث بالتحف والهدايا ، ولم يكن منه إليها شيء مقدار سبعة أيام ، ويمد كل يوم من هذه الأيام السبعة سماطا عظيما ، وخلع يوم السابع على جميع الأمراء ، ثم عرض له سفر واعتراه مرض ، فاستأذن الخليفة بالانصراف بالسيدة معه إلى تلك البلاد مدة قريبة ، ثم يعود بها ، فأذن له الخليفة بعد تمنع شديد وحزن عظيم ، فخرج بها معه ، وليس معها من دار الخلافة سوى ثلاث نسوة ، برسم خدمتها ، وتألمت والدتها لفقدها ألما عظيما جدا لا يعبر عنه ، وخرج السلطان وهو مريض مدنف مأيوس منه مثقل لا ترجى منه العافية ، فلما كانت ليلة الأحد الرابع والعشرين من رمضان جاء الخبر بأن الملك طغرلبك توفي في ثامن الشهر رحمه الله تعالى ، فثارت العيارون بهمذان ، فقتلوا العميد والشحنة وسبعمائة من أصحابه ، ونهبوا الأموال ، وجعلوا يأكلون ويشربون على القتلى نهارا حتى انسلخ الشهر ، لعنهم الله وقبحهم ، وأخذت البيعة بعده لولد أخيه سليمان بن داود ، وكان طغرلبك قد نص عليه وأوصى إليه ; لأنه كان [ ص: 790 ] قد تزوج بأمه بعد أبيه ، واتفقت الكلمة عليه وأنفقت في الأمراء والأتراك الأموال والخلع ، ولم يبق عليهم خوف . إلا من جهة أخي سليمان ، وهو الملك عضد الدولة ألب أرسلان محمد بن داود ، فإن الجيش كانوا يميلون إليه ويقبلون عليه ، وقد خطب له أهل الجبل ، ومعه نظام الملك أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق وزيره ، ولما رأى الكندري قوة أمره خطب له بالري ، ثم من بعده لأخيه سليمان بن داود .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد كان الملك طغرلبك عاقلا حليما ، كثير الاحتمال ، شديد الكتمان للسر ، محافظا على الصلوات وعلى صوم الاثنين والخميس ، مواظبا على لبس البياض ، وكان عمره يوم مات سبعين سنة ، ولم يترك ولدا ، وكان مدة ملكه بحضرة القائم سبع سنين وإحدى عشر شهرا ، واثني عشر يوما ، ولما مات اضطربت الأحوال وانتقضت بعده جدا ، وعاثت الأعراب في سواد بغداد وأرض العراق ينهبون الأموال ويشلحون الرجال . وتعذرت الزراعة إلا على المخاطرة ، فانزعج لذلك الناس .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها كانت زلزلة عظيمة بواسط وأرض الشام فهدمت قطعة من سور طرابلس .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها وقع موتان بالجدري والفجأة ، ووقع بمصر وباء شديد ، كان يخرج منها كل يوم ألف جنازة . وفيها ملك الصليحي صاحب اليمن مكة وجلب الأقوات إليها ، وأحسن إلى أهلها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 791 ] وفي أوائل هذه طلبت الست أرسلان خاتون زوجة الخليفة النقلة من عنده إلى عند عمها ، وذلك لما هجرها بالكلية وبارت عنده ، فبعثها الخليفة مع الوزير الكندري ، فلما وصلت إلى عمها كان مريضا مدنفا مثقلا ، فأرسل إلى الخليفة يعتب عليه في تهاونه بها ، فكتب إليه الخليفة يقول ارتجالا :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ذهبت شرتي وولى الغرام وارتجاع الشباب ما لا يرام     أذهبت مني الليالي جديدا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      والليالي يضعفن والأيام     فعلى ما عهدته من شبابي
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وعلى الغانيات مني السلام

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية